أحمد القرشي

أحمد القرشي

الربيع العربي وانهيار الجماعات

Sunday 15 April 2018 الساعة 06:30 pm

غالبية الأحزاب والقوى السياسية اليمنية، وحتى العربية، هي في الأساس جماعات ذات خلفيات دينية أو قومية تهيمن عليها الشمولية في كل شيء تقريبًا. ولكن القائمين عليها حولوها إلى أحزاب شكلا ولم تتحول في المضمون منهجا وسلوكا وممارسة، وهذا سبب الفشل والتراجع المستمر، وعدم إحراز تقدم في أغلب الملفات لأنها أساسا ليست وظيفتها ولم تنشأ عليها وليست ضمن منهجيتها وقناعاتها الحقيقية. فكنا كمن يزرع فجلا ويريد المحصول ذرة.

فعلى سبيل المثال: الأحزاب القومية واليسارية هي في الحقيقة مجموعات أو قوى نشأت من رحم ثورة شعبية أو انقلاب عسكري تحول لاحقا إلى سلطة حاكمة مطلقة الصلاحيات بلا حسيب ولا رقيب. وحتى بعد مغادرتها السلطة ظلت تفكر وتتعامل بذات الأدوات القامعة وغير القابلة للاختلاف والتباين حتى وإن أحبرت نفسها على التظاهر بخلاف ذلك فهي "تقية سياسية" لاعتبارات الضرورة ثم ما تلبث أن تفصح عن حقيقتها.

والجماعات الدينية هي عبارة قوى تبشيرية نشأتها دعوية تهتم بالآخرة وتكرس جهدها على تزهيد الناس في الدنيا، فاستقطبت الكثير من الأتباع والمريدين والمناصرين. ثم قذفت بها الأحداث والمتغيرات إلى واجهة العمل السياسي والحكم والسلطة والديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مجالات لم تتعلمها الجماعات الدينية وليست من اهتمامها الأصيل فوجدت نفسها غريقة محتارة تعيش صراعا داخليا مرهقا ومكلفا بين رغبتها في سلطة تراها قاب قوسين منها نتيجة الزخم الجماهيري الشعبوي من جهة وبين قدراتها الضحلة وحضورها شبه المنعدم في مراكز القوى المؤثرة واللازمة لأي مؤسسة تريد أن تحكم أي بلد.

تلك الأسباب وغيرها أدخلت "جماعاتنا الدينية والقومية واليسارية" في صراع غير متكافئ مع مراكز النفوذ والنخب في الدول التي ينتمي أعضاؤها لها. كما حدث في بعض الديمقراطيات الهشة حين تم الانقلاب على نتائجها جهارا نهارا ولم تجد تلك الجماعات ناصرا يعيد لها حقها الذي حصلت عليه بالصندوق فوصلت إلى السلطة بجماهير خالية من النخب المؤثرة وقناعات خالية من المواطنة المتساوية. وقد تجلى ذلك بشكل واضح عقب ثورات الربيع العربي مما سهل الانقلاب عليها والإطاحة بها.

لو تم تقييم حقيقي - بالنسب والأرقام- لحجم الاهتمام والدعم الفني والبرامجي والتقني المخصص لمؤسسات ووسائل العمل المدني والحقوقي والسياسات الخارجية مقارنة بما تحصل عليه أذرع العمل الدعوي والتنظيمي وحتى العسكري، فسنجد أنه لامقارنة بين الأمرين. لا من حيث البرامج ولا من حيث الأفراد ولا من حيث التأثير في القرار الداخلي.

سنجد مسؤول الإعلام لاعلاقة له بالإعلام. ومسؤول المنظمات وحقوق الإنسان لا علاقة له بالعمل الحقوقي والمدني ولا يمتلك حتى الحد الأدنى من الإلمام بالمبادئ الأساسية لهذه الوظيفة، وقد لا يجيد حتى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي مع المحيطين به ناهيك عن الخارج. 
وسنجد أن مستوى الاهتمام الحقيقي بالمؤسسات المدنية والإعلامية قريب من الصفر، وما وجد منه فهو لا يتعدى كونه نتاجا لعلاقات شخصية وتربيطات مناطقية ومصالح ذاتية أكثر من كونه سياسة ممنهجة قائمة على استراتيجية محددة الأهداف والنتائج سلفا.

ثورات الربيع العربي أثرت، بشكل كبير، على النسيج الداخلي لتلك الجماعات وأدخلتها في صراع أجيال. صراع بين الجيل الشاب الذي استطاع تطوير نفسه ذاتيا بفعل التعليم والظروف الثقافية والسياسية المحيطة به بحيث أصبح جزءا من المنظومة الحقوقية والسياسية والمدنية والإعلامية وبين الحرس القديم الذي يرى السلطة عبارة عن دعوة إلى الله لافرق فيها بين إدارة مجلس محلي وبين خطابة المسجد أو إدارة حلقة تنظيمية داخلية كون الهدف منها هو الأجر والمثوبة ومعيار الكفاءة والاستحقاق للوظيفة العامة ثم معيار التقييم وتحديد النجاح والفشل هو الانضباط التنظيمي للشخص المكلف ومدى التزامه بأداء الشعائر الدينية أكثر من المؤهلات والخبرات والنجاحات العملية في الوظيفة.

هناك صراع حقيقي بين الحرس القديم في الجماعات التي أسمت نفسها أحزابا ولبست لبوس الأحزاب والقوى السياسية وبين الجيل الشاب المستنير. وهذا تسبب في حدوث إشكالات كبيرة على مستوى إدارة مؤسسة إعلامية محلية أو التصعيد لمواقع قيادية دنيا ومتوسطة داخل الجماعة نفسها نتج عنه ازدياد حالة الاحتقان والتذمر من قبل الشباب الذي واجه تهميشا كبيرا لصالح الكهول تسبب في مغادرة الكثير من الشباب أو ابتعادهم وتراجع حماساتهم الكبيرة خصوصا بعد ثورات الربيع العربي.

وما نراه اليوم من تراجع كبير في أداء تلك الجماعات وحالات الفشل الظاهر ليس فقط بسبب تكالب الأمم والثورات المضادة من النخب المتجذرة في مفاصل التأثير كالمال والإعلام والمنظمات المدنية وإنما بسبب الأداء الكهل للجماعات الدينية التي يفترض أنها قائدة التغيير. حيث لم تسمح تلك القوى بالتجديد والتشبيب بشكل حقيقي. وظلت تنظر لنفسها أنها الربان الأقدر على القيادة وأن الشباب متهور ومستعجل في تحصيل النتائج ولايمكن الركون عليه. وهي ذات الفكرة الشيطانية التي أودت بزعامات الجمهوريات العربية في2011م حيث كان كل زعيم يرى أنه لا يوجد له مثيل يمكن أن يقود الدولة. متجاهلين حالة الغليان والتذمر الداخلي حتى أفاقوا على شوارع ضاجة بإسقاطهم ومحاكمتهم. وذات النتيجة كانت ستتبلور داخل الجماعات بشكل أو بآخر، لكنها تأخرت بسبب الأحداث المتسارعة والتغيرات السياسية والأمنية التي أجلت توجهات شباب الجماعات السياسية التي بدأت تتنامى في 2012 حتى 2014 في اليمن نحو التحول الداخلي إلى أحزاب سياسية. 
وما لم يحسم الصراع الداخلي بين جيل الشباب والحرس القديم في الجماعات الدينية اليمنية المسماة (أحزابا سياسية) لصالح الجيل الشاب وأفكاره التنويرية، فإن دوامة العنف العقائدي بين تلك الجماعات وخاصة الدينية منها ستتسع وتكبر وستكون أشد فتكا وتنكيلا بالمجتمع والجماعات نفسها مما نراه اليوم. 
لأن القناعات الحقيقية لدى غالبية الحرس القديم لا علاقة لها بالدولة المدنية والمشاركة والمواطنة المتساوية وحقوق الإنسان. وإنما قناعاتهم الحقيقية هي سلطة إلهية مطلقة العلاقة فيها محكومة بالسمع والطاعة والخروج عليها خروج عن أمر الله. والمنظمات الحقوقية "هرطقة" والإعلام "دواشين" والمواطنون رعية عليهم واجبات ولا حقوق لهم إلا ما جاد به ولي الأمر.

لن تحقق الثورات العربية أهدافها إلا حين تصل الثورة إلى تلك الجماعات نفسها وتحدث فيها تغييرا حقيقيا على مستوى الفكر والسياسات والقناعات والأشخاص ومنهجيات العمل والعلاقة مع الآخر المختلف والمتفق معها.