حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

بين "توحُّد" أضاع مؤسساته و"تفكُّك" يحاول أن يتمأسس

Thursday 26 April 2018 الساعة 10:38 am

ما الذي فعلته الحرب حتى هذه اللحظة بشكل عام؟

لقد مزّقت كيان الدولة اليمنية. لو كان هذا هو هدفها منذ البداية، فها هو قد تحقّق بأوضح وأشنع ما يمكن. إن كل ما يطفو الآن على السطح هو عبارة عن مشهد فوضوي يتألف من قطاعات جغرافية محكومة بتشكيلات اجتماعية وسياسية متباينة، وتنظيمات عسكرية متعددة الولاءات. نحن أمام كيانات وشبه كيانات ناشئة، ينفصل بعضها عن البعض الآخر بخطوط تقسيم سائلة ومتغيرة.

اليمن يقف على مفترق بين "توحُّد" أضاع مؤسساته، و"تفكُّك" يحاول أن يتمأسس. بعبارة أخرى: إذا كان التحلّل قد أصاب مؤسسات وأعمدة المسار الوطني القديم الذي أفضى إلى التوحيد والاندماج، فإن المسار النقيض، مسار التفكيك، يحاول في حمأة الحرب المتعثرة بناء مؤسسات تمثله، وأعمدة يقف عليها.

في السطور التالية محاولة بسيطة للرد على السؤال الكبير بشأن السيناريو الوارد أكثر من سواه كبديل في حال أصبح الحل العسكري للصراع في اليمن مُتعذَّراً بشكل نهائي.

بوسعنا صياغة السؤال هكذا: ما الدور الذي يمكن أن يُسنَد إلى السياسة عندما يصل الحل العسكري إلى طريق مسدود؟ (الحل العسكري يعني أشياء كثيرة، لكننا نقصد به هنا الانتصار العسكري لأحد جانبي الصراع وفرض سيطرته على اليمن بالكامل).

إذا استقر الوضع العسكري الجاري عند حالة الاستعصاء وعدم حسم الصراع لصالح أي طرف من أطرافه، فالمتوقع أن لا يقتصر دور أي عملية سياسية في اليمن إلا على أحد مسارين رئيسيين، وكلاهما منذوران للفشل كما يبدو:

• إمّا الشروع في ترسيم الواقع المجزأ الذي صمّمته الحرب، أي الاعتراف به والسماح له بأن يتمأسس كما هو عليه الآن، مع إدخال تعديلات عليه وانزياحات بسيطة وعمليات حذف وإضافة بقوة الفعل العسكري. بالطبع، هذا اتجاه مرير بالنسبة للوطنيين، علاوة على أنه محفوف بالمخاطر وينطوي على احتمالات الانهيار نفسها التي ينطوي عليها الاتجاه الآخر الموضح في النقطة التالية.

• أو محاولة (غير مضمونة) للتسامي على هذا الواقع، والتظاهر بأنه غير موجود. وهو ما يعني تركيز الجهود الدوبلوماسية لإنتاج صيغة سياسية متكاملة هدفها توحيد البلاد من جديد عبر عملية تاريخية يُفترض بها نزع الحدود المستحدثة بين كل هذه القطاعات المنفصلة، والشظايا المتناثرة والمتناحرة، وبالتالي تجميعها تحت قانون واحد.

أي أننا لن نكون بصدد منصة حوار اعتيادية بين قوى وأطراف سياسية تحمل سمات تمثيل وطنية، على غرار ما كان عليه الحال في أزمة 2011، بل سيتوجب هذه المرة تنظيم سلسلة مفاوضات تأسيسية، أفقية وعمودية، مفاوضات شاقة وربما مستحيلة، بحيث يشترك فيها ممثلون لزعماء جماعات دينية ومناطقية ذات طبيعة انقسامية، إضافة إلى أمراء حرب وفاعلين محليين وانفصاليين حديثي عهد بالسياسة.

سيكون الهدف هو التوصل لاتفاق (شبه مستحيل) على تكوين وبناء دولة يمنية من خلال دمج كيانات وشبه كيانات الأمر الواقع، مع ذلك العدد الهائل من الفصائل والجماعات المذهبية والمناطقية، وكلها تقريبا تتميز بخليط من إيديولوجيات وأهداف متعارضة، وكلها تتمتع بالتسليح والدعم والرعاية من قوى خارجية.

وهذا المسار يضع على عاتقه، أيضًا، تشكيل نظام سياسي يكون انعكاسا لأرخبيل معقد من الرؤى والتصورات والعواطف والمصالح والطموحات.

فهل من الممكن القيام بهذه العملية بنجاح؟

دعونا نرى ما يقوله مكيافيللي، وهو رائد الواقعية السياسية: "لغرض إيجاد جمهورية جديدة، أو لغرض إصلاح المؤسسات القديمة لجمهورية قائمة إصلاحاً كاملاً، فيجب أن يكون ذلك هو عمل رجل واحد فقط".

فلنضع رأي مكيافيللي جانبا، ولنذهب إلى ما قاله قبل ثلاث سنوات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر هنري كيسنجر تعليقا على مساعي جون كيري وزير الخارجية الأمريكي في عهد أوباما بشأن المسألة السورية: "كيري يسعى في سوريا لحكومة ائتلافية مكونة من تنظيمات مشاركة في حرب إبادة لبعضها البعض. حتى لو استطعت تشكيل حكومة كهذه، ما لم تحدد فاعلا مهيمنا، عليك إجابة هذا السؤال: من سيحل الخلافات التي ستحصل حتما؟ وجود حكومة كهذه لا يضمن أنها ستعتبر شرعية وأن قراراتها ستطاع".

ويضيف كيسنجر: "استخدام القوة هو العقوبة الحتمية بيد الدبلوماسية. الدبلوماسية والقوة ليست نشاطات متباعدة. إنها مترابطة، وإن لم تكن بشكل أنه في كل مرة تفشل فيها المفاوضات، ستلجأ للقوة. لكن هذا يعني ببساطة أن الطرف المعارض في المفاوضات يجب أن يعلم أنه في نقطة محددة، ستفرض رغبتك. بدون ذلك، ستصل لنهاية مسدودة، أو هزيمة دبلوماسية".

لا شك أن كلام كيسنجر واضح بما يكفي، وهو يصح على الحالة اليمنية بالقدر الذي يصح به على الحالة السورية.

إن لم تنته هذه الحرب بانتصار طرف فيها، فمن الصعب العثور على فاعل مهيمن في اليمن. الأمر الذي يرجح تثبيت التقسيم. هذه المهمة التحكيمية منوطة في بعض البلدان بالقوات المسلحة. وأحيانا تقوم قوة احتلال بالمهمة التي قد تنجح وقد تفشل. التحالف السعودي ليس حلف الناتو. الواضح أنه لا يملك القدرة، بكل معانيها، على التصرف كقوة احتلال تمارس وصاية مؤقتة إلى أن تتأسس بنى حكم جديدة.

نحن في تلك النقطة المشؤومة في أي صراع، وهي اللحظة التي تصل فيها إمكانات الحل السياسي والحل العسكري إلى وضع من الفشل المتكافىء، وهو ما يعني افتقارهما كلاهما لأي مقومات أو شروط للنجاح. (بالطبع هذه المعادلة قد تتغير فجأة، وتميل الكفة لمصلحة أحد المسارين، العسكري أو السياسي أو مزيج من هذا وذاك).

هذا إذا كان المعنى المعياري لكلمة "نجاح" الواردة في الفقرة السابقة، هو التوصل إلى نهاية للصراع تحفظ بقاء اليمن كدولة وطنية موحدة ذات سيادة.