حكيم الجبلي

حكيم الجبلي

الصراع أعمق من الإختزال إلى "شرعية" و"انقلاب"

Tuesday 01 May 2018 الساعة 08:37 pm

لا يمكن لشخص يتمتع بدرجة من النضج المعرفي والوعي السياسي أن يقبل التعريفات التي تنظر إلى الصراع في اليمن باعتباره "شرعية" في مقابل "انقلاب". (إلا إذا كان المقصود مبدأ الشرعية الدستورية للجمهورية اليمنية مفصولا عن عبدربه منصور هادي الذي كان أول من انتهك هذا المبدأ بكل الطرق ولم يتم استدعاء هذا العنوان إلا بعد فراره من العاصمة).
لا ريب أن ما يمر به اليمن أخطر وأعقد من هذا بكثير.
أنت هنا تواجه وقائع ومعطيات انهيار وتمزق الدولة الوطنية. عندما تسمي وضع الانهيار هذا بأنه "انقلاب"، فأنت لا تفعل سوى التهوين من شأن ما حدث عبر إضفاء طابع اعتيادي مألوف في عالم السياسة. أصبح "الإنقلاب" منظورا تحليليا مشكوك في صلاحيته عند التعامل مع نماذج معينة من الصراعات والحروب النشطة في عدد من البلدان التي يشار إليها على نطاق واسع كدول فاشلة.
الذي حصل في اليمن هو أن جماعات مسلحة غير نظامية زحفت على المدن وتمارس بعض وظائف الدولة. هل يتوجب علينا وصف حدث كهذا بأنه "انقلاب" لكي يغدو رفضنا له واستهجانه مشروعا وأخلاقيا؟ 
إذا أردت فعل شيء في مواجهة مظاهر وتعبيرات الفوضى والسقوط، لست بحاجة إلى استخدام دعوى شرعية زائفة، مطعون في صلاحيتها بعدد لا يحصى من الحيثيات والاعتبارات، أقلها أن من يمثل هذه "الشرعية" كان مشاركا فاعلا، وبكل الطرق، في عملية إسقاط الدولة والتفريط في مكانتها ورمزيتها وصولا إلى تسليم عاصمتها، فضلا عن سلسلة خروقات وانتهاكات جوهرية للمبادىء والقواعد المعيارية المؤسسة للدولة والناظمة للمجال السياسي.
منذ ظهورها، كانت جماعة الحوثي حركة مسلحة تعبر عن حالة تمرد وانشقاق عن الدولة المركزية وتقويض كيانها وتأسيس كيان بديل على أطلالها. أي أنها لم تكن فقط مجموعة منظمة تقرر فجأة انتهاك قواعد وتقاليد النظام السياسي من داخل النظام نفسه.
وبالرغم من أن الجماعة مارست نشاطها منذ البداية بمعزل عن ضوابط العمل السياسي القانونية، إلا أن أي تعريف لزحفها على العاصمة، وما ترتب على الزحف بعد ذلك من تداعيات، بأنه "انقلاب" على "السلطة الشرعية" فهذا أعظم تكريم وإطراء يمكن أن تحصل عليه جماعة كهذه، علاوة على أنه وصف لا ينسجم مع واقع الحال، وخصوصا حين تكون "السلطة الشرعية" فاعل أساسي في تحطيم ركائزها ومصادر قوتها هي نفسها، وفاعل أساسي في تهيئة الشروط التي من شأنها إغراء أي جماعة مسلحة متوثبة غير سياسية (خطابا وأسلوب عمل) ولا مهتمة بقواعد ولا أنساق عامة ولا حسابات ولا مقتضيات الحكمة والتبصر.

السعودية وتحالفها وحدهم من كانوا بحاجة إلى استخدام هادي و"شرعيته" (المتآكلة والمشكوك فيها) لكي يكتسب تدخلهم العسكري شكلا يمكن تبريره والدفاع عنه من وجهة نظر القانون الدولي.
أما خصوم وضحايا ومعارضي الحوثي في الداخل فإن آخر ما يحتاجونه هو اتخاذ شرعية زائفة وتفتقر للمصداقية والتأييد، غطاءا وعنوانا وأساسا لأي نشاط سياسي أو تحرك أو خطاب تعبئة في موجهة الحوثيين.
كل تحرك وكل فعل وطني في مواجهة واقع غير شرعي إنما يستمد شرعيته من نفسه ومن حقيقة لا شرعية تلك السلطات الكثيرة الممثلة للتمزق والفوضى، وهو فعل يكتسب أخلاقيته من لاأخلاقية تلك الجماعات وسوء أعمالها وفظاتها وتناقض شعاراتها وبنية خطابها مع معايير وأعمدة الوطنية اليمنية وأسس الكيان الموحد.
لا يمكن إلا لطرف لم يشترك في انتهاك القواعد والمبادىء الدستورية ومعايير الشرعية، أن يطلق على جملة ما حدث منذ 2011 بأنه انقلاب على النظام وعلى مبدأ الشرعية الدستورية.. يمكن فقط لطرف كهذا أن يحظى بالمصداقية فيما لو قرر التحرك من جهته الحديث عن هذه القواعد والمعايير واستعادة العمل بها وتحقيق مستوى من الاجماع حولها.

تشير حنه أرندت بإعجاب إلى الطريقة التي نجا بها الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية من أعباء البدء بـ "نظام جديد للأشياء". أي أنهم، بحسب أرندت، تجنبوا تنفيذ العمل الوحيد الذي قال عنه مكيافيللي فى أحد المرات "لا يوجد شيء أكثر صعوبة في القيام به ولا مشكوك في نجاح عواقبه أكثر من هذا الفعل، ولا أيضاً أكثر خطورة فى التعامل معه". إنه فعل التأسيس هو ما يتحدث عنه مكيافيللي.
وتشرح أرندت كيف أبقى القادة الأمريكيون على الكثير من مؤسسات وقوانين ما قبل الاستقلال الوطني: "لقد اعتمدوا على طبقة قانونية موجودة مسبقاً تتألف من المواثيق الملكية البريطانية، والقانون العام، والاتفاقات الاستعمارية، التي ظلت سليمة خلال كامل تلك الفترة. وبالتالي، لم يولد الجديد من قطع كامل مع الماضي، بل كان نتاجاً لتطور طبيعي بسيط أو شكل من أشكال النمو العضوي".
هل لا يزال من الممكن في اليمن الاستنارة بأقوال أرندت، أو الاستفادة من تجارب ونماذج انتقالية تقوم على مبدأ حفظ الاستمرارية والتراكم والعودة إلى مسار التطور العضوي الذي انقطع بالحرب والانهيار؟ 
لا أحد يدري.
ربما فات الأوان.