سمير رشاد اليوسفي

سمير رشاد اليوسفي

تابعنى على

أردوغان في شطرنج إسرائيل 

Monday 11 June 2018 الساعة 02:16 pm

منذ تولي حزب "العدالة والتنمية" للسلطة قبل 16 عاماً، وهو يُخطط لإعادة نفوذ " تركيا" على الدول التي خضعت للإمبراطورية العثمانية قُرابة 600 سنة تحت لافتة "الخلافة"قبل أن تتناثر بهزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وتسقط بشكل رسمي عام 1924.

ولا يخفى على كثيرين، أنَّ "رجب طيب أردوغان" أسس هذا الحزب بالتعاون مع عبدالله غُل، وبولنت أرينج، في منتصف أغسطس 2001،بعد إنشقاقه المباغت عن "نجم الدين أربكان" أستاذه لثلاثين عاماً، وأبو الإسلام السياسي في تركيا منذ بدأ نشاطه في ستينيات القرن العشرين بتأسيس حركة "مللي جورش" وتعني: "الرأي الإسلامي"، ثم تخليه عنها ليؤسس على التوالي: حزب "النظام الوطني"، ثُمّ "السلامة"، يليه "الرفاه"، وبعده "الفضيلة".. وآخرها حزب "السعادة" وكلها تقريباً كانت بنفس البرامج والتصورات ، لكنه كان يلجأ لتغيير مـسمى الحزب بعد حَله..احتيالاً على النظام العلماني الذي يُجَرَّم تأسيس أحزاب ذات طابع ديني فيحكم عليه في كل مرة بالسجن مع حظر حزبه .

و"أربكان" أصابته غُصّة من أردوغان، ضَلّ يجاهر بتفاصيلها حتى قضى نحبه، أوخر فبراير 2011 عن 84 سنة، وفي خلاصتها أنّ "أردوغان" عندما أسس حزب العدالة، خاض به الانتخابات مُستخدماً اسمه وسمعته وتاريخه ومُدعياً أنّه يريد تعيينه رئيساً للجمهورية، وقدم نفسه لأنصاره وفقاً لهذا المزعوم ؛ فحصد بسبب كذبه غالبية الأصوات في انتخابات 2002.

وكان أربكان عند تأسيس حزب العدالة تحت الإقامة الجبرية ممنوعاً من ممارسة العمل السياسي لخمس سنوات بحكم قضائي ، وبعد انتهاء مدة العزل، فوجئ بمحاكمته بتهمة اختلاس أموال حزب "الرفاه" المنحل الذي كان رئيساً له، في سابقة لم تحدث من قبل، حيث قُدمت معلومات ووثائق خاصة بالحزب لقيادات علمانية قيل أنّ أردوغان قام بتسريبها.. فهو المستفيد الوحيد من تغييب معلمه العجوز وتشويه سمعته.. خصوصاً وقد بدأ يٌثرثر عن خياناته واتفاقاته المشبوهة.

ويقول "أربكان" في حديث مُتلفز أنَّ "جورج بوش" هو من دعم تأسيس حزب العدالة والتنمية.. وأزال من طريقه كل المعوقات الدستورية والقانونية ..وحماه من سطوة الجيش أثناء صعوده للسلطة ، بعد اقتناع "أردوغان" بفكرة إدماج دولة إسرائيل في مشروع الشرق الأوسط الكبير . والتي سبق لمعلمه أنْ رفضها وتعرض بسببها لضغوطات أميركية إبَّان رئاسته للحكومة حتى أضطر لتقديم استقالته قبل أن يجبره الجيش على التنحي.. وبسبب رضوخ أردوغان حصل على "قلادة الشجاعة" من اللوبي اليهودي في واشنطن، وعلى دكتوراه فخرية من جامعة "جون".

واستَشْهد "أربكان" بفيديو يظهر فيه أردوغان مُتعهداً بتخصيص مدينة "ديار بكر"، ذات الأغلبية الكردية، لتكون مدينة تعايش حرة.. وجاذبة لاستثمارات شعوب الشرق الأوسط، تنفيذاً لمقترح طرحه الرئيس الإسرائيلي الأسبق "شيمون بيريز" عام 1992 في كتابه "الشرق الأوسط الجديد".. ويضيف أردوغان مزهواً : إنَّ "تركيا" صارت في عهد حكمه "من رؤساء مشروع الشرق الأوسط الكبير".

وكان أربكان قد كلّف أردوغان برئاسة فرع حزب "الرفاه" في اسطنبول عام 1985، وبعده حزب "الفضيلة"، كما رشحه مرتين لعضوية البرلمان أخفق فيهما، وفِي الثالثة فاز بأغلبية الأصوات في الانتخابات البلدية وأصبح عُمدة "اسطنبول" فترة أربع سنوات "1994-1998"
حقّق فيها نقلة نوعية - لفتت انتباه المراقبين إليه - مستثمراً انفتاحه على العرب وتهافت رجال أعمال خليجيين وقيادات اخوانية على السياحة في اسطنبول وتوظيف أموالهم فيها .

من أبرز المهتمين بـنشاط"أردوغان" آنذاك كان رجل الإستخبارات "مورتون إبراهاموفيتش " سفير "واشنطن" في "أنقرة" .. ورأى فيه انفتاحاً غير مألوف في قيادات حزب الفضيلة .. و حينها -بحسب ما وثقه الصحافي التركي "نصوح جنجور" في كتابه " أطياف الحركة الاسلامية" - صارح السفير أردوغان بعد لقاءات متبادلة بينهما أن واشنطن تفضله على أربكان.. ووجه له دعوة، رحب بها، لزيارة الولايات المتحدة.

وتطورت الزيارة إلى"خمس" في أقل من خمس سنوات، أقنعته بالانشقاق عن أربكان، وتقرب فيها من اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل.. وقيادات في الاستخبارات المركزية الأميركية.

فزار واشنطن في أبريل 1995. وفي نوفمبر ثم في ديسمبر 1996- أي بعد أقل من شهر على رحلته السابقة لها - تبعها بزيارة في مارس 1998. وبعد إقالته من رئاسة البلدية وخروجه من السجن، عاود زيارتها في يوليو 2000، وفيها تّم ترتيب اللمسات الأخيرة لحزب العدالة والتنمية في لقاء له مع الزعيم الديني"فتح الله كولن"، رئيس جماعة "الخدمة" والذي لم يكن قد مضى عليه هناك سوى بضعة أشهر في "منفى اختياري" بعد مضايقة السلطات له، ورفع قضايا عليه تصل عقوبتها إلى الإعدام .. وأثمر ذلك اللقاء عن تحالف استراتيجي بينهما ضمن "أردوغان" بموجبه أصوات مناصري "كولن"، ودعم وتأييد المؤسسات الإعلامية المملوكة والموالية له، وفِي صدارتها صحيفة "توداي زمان" وقناة "سما-8".

كما زار أميركا أيضاً بعد انشقاقه من "الفضيلة" وقبل تأسيسه لحزب "العدالة والتنمية" بأربعين يوماً، وكانت الدعوة هذه المرة موجهة له من "البيت الأبيض" لحضور حفل عيد الاستقلال فى 4 يوليو 2001.

وبعد فوز حزبه في الانتخابات، قام بزيارة سابعة في ديسمبر 2002، التقى فيها الرئيس "بوش" بصفة رسمية.. انفتحت بعدها أمامه أبواب البرلمان والرئاسة على مصاريعها .

وإلى ماقبل معارضته لتورط أردوغان في دعم ثورات "الربيع العربي" قدّم " فتح الله كولن" أنصاره وهم بالملايين -ويدينون له بولاء روحي على الطريقة الصوفية - هدية مجانية لأردوغان في الانتخابات التي خاضها "العدالة والتنمية" وبينهم قيادات كبيرة في القضاء وبقية أجهزة الدولة بسبب التعليم النوعي الذي تلقوه في مدارس كولن المتفوقة على المدارس الحكومية .

و"كولن" حنفي المذهب تأثر بـ"رسائل النور " للعالم الكردي "بديع الزمان النورسي" واستقرت شخصيته على التصوف .. وينشط في مجال التعليم في 125 دولة .. ورغم توجهه الإسلامي، يتفق مع "مصطفى كمال أتاتورك"، في رؤيته لأوروبا وأميركا على أنّها "قوى عالمية ينبغي التعاون معها". ولايفضل تطبيق الشريعة الإسلامية في تركيا لأنّ "غالبية قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس" ويعتبر "القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان" مجالاً حيوياً لبلاده، لأنّها تضم أقليات تركيّة مؤثرة، و في تصوره أنَّ تركيا ستعود لمكانتها زمن الدولة العثمانية إذا ما وطدت نفوذها وسطهم.. ولا يرى للعالم العربي وإيران أهمية كبيرة بالنسبة لتركيا قبل ذلك..!

"نجم الدين أربكان" المتأثر بالطريقة "النقشبندية" في الطرف النقيض ..أفنى حياته في إعادة تركيا للصف الإسلامي والعمل تحت شعار الخلافة. لأنّ أميركا عدوة المسلمين، وتحكمها"الصهيونية" 
.. وبلوَر هذه الفكرة عملياً عندما رأس الحكومة بتأسيسه مجموعة الثماني الإسلامية، في مواجهة الدول السبع الصناعية.

ويتضح لمتابع سياسات "أردوغان" تأثره بـ"أربكان"، في نظرته لأهمية التوجه شرقاً نحو العالم الإسلامي.. مع التزامه برؤية "كولن" في انفتاحه وتعاونه مع الغرب وعدم اهتمامه بتطبيق الشريعة .

ومن غير المستبعد أنَّه توصل لهذه التوليفة بإيعاز من الأميركان.. خصوصاً أنَّ ارتباطه بدوائرهم تزامن مع تصاعد إرهاب تنظيم "القاعدة" وتهديده للأمن والسلام العالمي في عديد من عواصم العالم.. وبلوغه الذروة بتفجيرات 11 سبتمبر في قلب أميركا .

حينها اتهمت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة "السعودية" بالتساهل مع الأفكار المحرّضة على الإرهاب، في المنابر والمناهج والجمعيات الخيرية. واعتبرت الرياض هذه الاتهامات إنذاراً جدياً يستدعي الاستنفار، والعمل بهمة وحزم، لمحاربة وتجفيف منابع التطرّف .

كما نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2003 خارطة جديدة تُقسم الدول العربية إلى دويلات إثنية ودينية .. رأت فيها الحل الأسلم لمشكلة التعصب .. تلتها تقارير في عدة صحف تتحدث عن ضرورة دعم تركيا - باعتبار إرثها العثماني - لتكون مع إيران راعيتين لمشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي سيضم إلى جانب الدول العربية دولة إسرائيل ..والملفت أنّ تلك الخارطة أعادت نشرها نفس الصحيفة عام 2013 !

تلقّف أردوغان تلك التصورات على أنَّها فرصة للتوسع ومدّ جسور التواصل مع كافة الدول العربية، والإسلامية، في قارتي آسيا وأفريقيا، وقام خلال الـ16 عاماً الماضية بزيارات وجولات مكوكيّة، شملت معظمها. ووقّع مع كثير منها بروتوكولات تعاون، بُغية استخدامها في مفاوضاته مع "الغرب"، للحصول على المزيد من المكاسب.. ومؤخراً أبرم اتفاقيات اقتصادية وعسكرية مع دولتين في أفريقيا، وإمارة خليجية .

ولعب بإتقان على الوتر العاطفي للعرب والمسلمين.. وتوقهم إلى رمز يجمع شتاتهم ، واستثمر في سبيل ذلك ما حققه من إنجازات اقتصادية لدولته.. 
ومن أجل ذلك حَّرك جمود الدراما التركية موظفاً إياها في اتجاهين (رومانسى عاطفي.. وآخر سياسي تاريخي) فغزت المنطقة بمسلسلات مدبلجة سيطرت على عقول وقلوب المشاهدين ووثقت علاقة بلاده مع العرب.. وروعي في المسلسلات الرومانسية اختيار اللهجة السورية لنعومتها.. وتصوير أحداثها في أماكن بديعة وخلابة، وفلل فاخرة، فضلاً عن ابرازها المجتمع التركي بصورة متماسكة ومحافظة تمقت التطرّف؛فاستدرج بها ملايين السياح الذين يُدرون على بلده 2 مليار دولار سنوياً.. ، ناهيك عن ترويجها لسوق العقار حيث تباع الشقة العادية بمتوسط مائة ألف دولار ...

أمّا المسلسلات التاريخية أو البوليسية ذات الطابع السياسي فتهدف لدغدغة عواطف البسطاء وإقناعهم بأهمية تركيا كدولة مُسيطرة يحسّن الركون عليها في استعادة أمجاد المسلمين ..

ومن طرائف تأثيرها ما صار يشاع عن شخصية "سليمان القانوني" في المسلسل الذي يحمل إسمه وأنّه يجسد شجاعة وعدالة" أردوغان".

وتشير الإحصائيات عن دبلجة 115مسلسلاً منذ بدئها في 2007، وحتى "أرطغرل" الذي يشرف عليه الرئيس المهووس بالاستعراض وفرد العضلات تحت تأثير اقتناعه بأنّ الله خلقه ليجمع المسلمين في ظل حكمه وتحت امرته.

لكن منذُ 2011 أصيب أردوغان بحمى الشعارات الزائفة متوهماً أن الثورات في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا اندلعت لكي تتوجه سلطاناً على المسلمين .. لولا تآمر السعودية والإمارات عليه .

وبالتالي رفض الإستجابة لنصائح حليفه "فتح الله كولن" بتجنب إشعال فتنة في المنطقة ..و رمى بكل ثقله دفاعاً عن دولة "الإخوان" في مصر رغم أنّ سيناريو خلعهم من السلطة لم يختلف عن مخططهم لخلع الرئيس مبارك ..

ولهذا جاءته رسالة على شكل انقلاب لم تكتمل أركانه منتصف يوليو 2016، اتهم الأميركان بالتواطؤ مع كولن بتدبيره.

من ذلك كله، نستنتج أنّ جلب أردوغان لتركيا، جاء برعاية أميركية وموافقة إسرائيلية وحماية من الجيش التركي، كما أنَّه في إطار خطة إدماج دولة إسرائيل في مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي وضع خطوطه "بن غوريون" قبل إنشاء دولة إسرائيل.. 
مع زيادة تجزئة معظم الدول العربية .

وهذا المشروع - كان إلى ما قبل مواجهة السعودية ومصر والإمارات لمخططاته التقسيمية تحت مُسمى ثورات "الربيع العربي " - يعتمد على إيران وتركيا بشكل محوري.. لدرجة أنّ كاتباً أميركياً مهماً هو الصحافي الأميركي "روبرت كابلان"، صاحب نظرية الفوضى ..أصدر في 2012 كتاباً أطلق عليه "انتقام الجغرافيا " كرسه للحديث عن إعادة رسم الخرائط في مناطق الصراعات والحروب، وخصص فصلين من فصوله الـ15للحديث عن التأثير في "المحور الإيراني".. و "تركيا" وريثة العرش العثماني. ولَم يجد دوراً يستحق الذكر لأي دولة عربية.. في دلالة واضحة على أنّ مخطط الشرق الأوسط بقيادة ايران وتركيا كان من أهدافه تقويض الدول العربية لصالح توسيع نفوذهما والمبرر تحقيق السلام مع اسرائيل .

في الكتاب أيضاً فصلٌ مهم عن "جاذبية القوة البحرية"، المتمثّلة في السيطرة على الموانئ والمنافذ الهامة للبحار .

ولعل هذا الكتاب يُفسر التقاسم المعلن أوالخفي للنفوذ بين طهران وأنقرة في الدول العربية التي تعاني من الحرب والصراع المسلّح .. و صار موضوع السيطرة على الشرق الأوسط دافعاً لهما نحو مزيد من التفاهم والتعاون.. ورفع حجم التبادل التجاري، وتجلى ذلك في توافقهما على رفض تقسيم العراق وافشال استفتاء الأكراد على الاستقلال.

كما لم تنتهِ بعد محادثاتهما حول الأزمة السورية.. وإن كان متوقعاً تركها إلى جوار العراق ولبنان، نهباً للمطامع الإيرانية.. في مقابل غض النظر الإيراني عن الطموح التركي الساعي لبسط نفوذه على دول شبه الجزيرة العربية والبحرالأحمر و القرن الأفريقي بعدما عجزت إيران عن تصدير ثورتها لهذه الدول على مدى 38 عاماً .