فهمي الكاشف

فهمي الكاشف

الحوثي ومحاولة التموضع كقوة فصل وعزل

Wednesday 02 January 2019 الساعة 04:18 pm

▪كان الحوثيون في أمسِّ الحاجة للتحالف مع المؤتمر بقيادة صالح عندما كان الأمر لا يزال يتعلق بذلك الطموح العنيف الذي راودهم فور سيطرتهم السهلة على العاصمة صنعاء، والمتمثل في محاولة الظفر بحكم اليمن كاملة، من جنوبها إلى شمالها.. كانوا في البداية يريدون تحقيق هذا الطموح من خلال الرئيس هادي الذي تصرف من موقعه كرئيس شرعي بطريقة متراخية ومشبوهة شجعتهم على اقتحام العاصمة والسعي عقب ذلك إلى تحويل السيطرة العسكرية إلى حضور مهيمن على أجهزة وهياكل الدولة المركزية من خارجها ومن داخلها.

بعد فرار هادي إلى عدن، لم يتبق إلا الرئيس صالح وحزبه، باعتبارهما الخيار رقم اثنين للحصول على كل ما يفتقر إليه الحوثيون من خصائص وأدوات ربط وطنية عابرة للانقسامات المذهبية والجهوية.

لكن حتى وجود صالح محشوراً معهم قسراً في جبهة واحدة، لم يكن بالشيء الكافي لحجب ومواربة حقيقة الحوثيين الفاضحة التي تتميز بالقدرة الهائلة على تحريك وتوليد الانقسام والتفكك الوطني المرعب.

تم دحرهم من عدن ومحافظات الجنوب، وظلت مأرب مغلقة عليهم، وخسروا نصف تعز، ومركز محافظة الجوف، ومساحات واسعة على الساحل الغربي. كان كل ذلك يرسل برسالة واحدة للحوثيين مفادها أن اليمن أكبر مما أعدوا أنفسهم له، وأدركوا أن عليهم التموضع وفقاً لحقيقتهم الصميمية كجماعة مذهبية تحمل في طياتها خواص قوى الفصل والعزل والتمزيق.

استجابوا لنداء الغريزة. قرروا انتهاء الاحتياج المؤقت للتحالف مع صالح الذي كانوا قد قبلوا به شريكاً على مستوى اليمن، أما أن يزاحمهم داخل نطاق المنطقة المذهبية المرسومة في عقولهم والتي صمموا خططهم كلها لكي تتناسب مع هذا النطاق، فإن أي شراكة تعد مما لا يمكن احتماله.

قبل 4 ديسمبر 2017، كان من السهل إدراك أن الكثير مما يعلنه الحوثيون من مواقف يعود إلى شعورهم الدفين بأنهم في تنافس صعب وحساس مع حزب المؤتمر بقيادة الرئيس صالح، تنافس على الصعيد الوطني بين نسقين من الخطاب والتعبئة يقفان في العمق على طرفي نقيض وإن كانا يصدران عن فريقين دفعتهما الضرورة لخوض معركة وجود ضد خطر مشترك.

ولقد كان ذلك الشعور بالتنافس المستحيل هو الذي كان يحدو بالحوثيين إلى منازعة المؤتمر (أو محاولة تجريده) من قضاياه الكبرى التي تشكل أعمدة ثقافته السياسية وعناوينه المناط بها إبقاء الحوثيين على مسافة مع وعي قواعد وأنصار المؤتمر ورئيسه، وخصوصاً في مناطق شمال الشمال التي كانت هدفاً رئيسياً لعملية استقطاب حوثية في أعماق المجتمعات القبلية ذات الثقل المؤتمري.

ولا يزال من الواضح أنه طالما بقي الحوثيون مسيطرين على العاصمة صنعاء، فإنهم لا يجدون مشقة تذكر في التظاهر باعتناق أي موقف أو مبدأ أو برنامج أو أي قضية تحظى بالشعبية والمصداقية، لا لشيء سوى الحيلولة دون استخدامها سياسياً من أي طرف ضدهم أو المزايدة عليهم بها.

▪في منتصف تسعينيات القرن الماضي، عندما سيطرت مليشيا حركة طالبان على السلطة في العاصمة الأفغانية كابول، لم يهتم أحد بالسؤال عن نوع نظام الحكم الذي أقامته هناك، وما إن كان جمهورياً أم ملكياً، وهل هو ديمقراطي أم شمولي، وما إن كان برلمانياً أم رئاسياً.
كان الحدث، بشكل عام، يقع خارج كل التصنيفات والمفاهيم الكلاسيكية التي تحفل بها الأدبيات السياسية ونظريات علم الاجتماع.

الحال نفسه، تقريباً، ينطبق على ما شهدته اليمن، حينما زحفت جماعة مسلحة على العاصمة في 2014، وفرضت سلطة أمر واقع لا تزال حتى هذه اللحظة عصية على التصنيف والتعريف بالمنطق التقليدي الذي درج عليه الناس عند الإشارة إلى الحوادث والظواهر السياسية.

إن الصراع في اليمن على درجة من التعقيد والتركيب لا سابق لها ربما في التاريخ السياسي للبلاد. هذا الوضع يستدعي بصيرة نافذة وخلّاقة لتكوين رؤية شاملة سديدة.
مثلاً: 
يمكن قراءة الحوثي من منظور الصراع الإقليمي باعتباره ركيزة، أو وكيلاً محلياً لـ"إيران الخمينية"، ويمكن أن يُقرأ من منظور الانقسام الشيعي السنّي الذي يتغذّى من التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران.

ويمكن قراءة جماعة الحوثي من منظور تاريخي يمني باعتبارها حركة ماضوية تحاول استرداد الإمامة الزيدية، ويمكن رؤيتها بصفتها حركة انقلابية احتلت العاصمة وأطاحت بسلطة "شرعية" بقوة السلاح.

ويمكن النظر إلى الحوثي باعتباره جماعة من جماعات الإسلام السياسي تشتغل على دوائر متعددة من العصبيات والتضامنات المتخلّفة، تبدأ من دائرة السلالة إلى المذهب وتنتهي بالأمة الاسلامية، وفقاً لمفهوم ثورة الخميني عن الأمّة. ويمكن النظر إليه باعتباره مظهراً من مظاهر سقوط وانهيار الدولة المركزية اليمنية بفعل أحداث ما سمي بالربيع العربي، وتعبيراً مُجسَّماً عن فشل السياسة في تسوية التناقضات والتوفيق بين المصالح.

كل قراءة من هذه القراءات محكومة بالنقصان إذا ما تم أخذها بمفردها وتشكيل السياسة وفقاً لها. فالحقيقة موزّعة بينها على مقادير متفاوتة.

الخلاصة هي أن التحليل الذي يحاول الإحاطة بكل زوايا النظر هو التحليل الذي ينبغي أن تقوم عليه سياسة ذكية ومتكاملة وفعَّالة في التعامل مع جماعة الحوثي حرباً وسلماً. 
وتحضر في هذا الصدد ملاحظة ثاقبة للمفكر والناقد من أصول سورية عزيز العظمة: "نحن بحاجة إلى أدوات مفاهيمية جديدة لفهم الوضع الذي يتميز بالتشظي لا بالتكامل وبالتفكك لا بتراكم الاتجاهات التاريخية التي كانت الدولة وسيلتها. والحال أن العلوم الاجتماعية قائمة على دراسة التناظم والانتظام، وليس التشظي، وهنا تكمن المشكلة التحليلية".