سعيد الرَكْنَه

سعيد الرَكْنَه

الانقلاب الحوثي.. المقدمات والنتائج وهواجس المستقبل

Saturday 16 February 2019 الساعة 03:10 pm

مع بداية ظهور الحركة الحوثية ومنذ حربها الأولى ضد الدولة إلى ما قبل انقلابها على السلطة الشرعية في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014م، كان الحديث عن كهنوتيتها وإماميتها محل جدل وشك لدى الكثير من النخب والأحزاب السياسية في الساحة الوطنية، بحيث شكك البعض في أهداف الحرب ضدها وزيف مصداقيتها من قبل نظام الرئيس صالح.. وتعامل معها البعض بوصفها حركة سياسية بمظلة دينية غير واضحة المعالم، فيما يخص مشروعها ورؤيتها السياسية ونظام الحكم، بينما حاول البعض أن يتحالف معها وسعى لتوظيفها ضد خصومه السياسيين، كما حدث في عام 2011م بعد توقف الحرب عليها.

ولم يقتصر الأمر على قبولها وإشراكها في ما عرف بالثورة الشبابية واستخدامها كورقة ضغط ضد النظام رغم نزعتها الطائفية الواضحة وانغلاقها على نفسها، بل سعى خصوم النظام، يومها، إلى الترحيب بها والاعتذار لها على الحروب الست التي راح ضحيتها الآلاف من جنود الجمهورية كبداية أولى.

واستمرت قصة من تمكينها والمزايدة بسلوكها المدني في إطار الساحة بدوافع كيدية وتحت شعار الثورة تجب ما قبلها إلى تمكينها من السيطرة على كامل نطاقها الجغرافي الذي كانت تتمركز في جزء يسير منه.

ولم تكن السيطرة الجغرافية فحسب ما تصبو إليه الميليشيا، بل شملتها السيطرة على مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية لتمارس أبشع الجرائم ضد معارضيها ومن ساندوا الدولة ضدها من أبناء محافظة صعدة بتغاضٍ وربما بتواطؤ من قوى الثورة، يومها، ممثلة باللقاء المشترك وقيادة المنطقة العسكرية التي كان يقودها، آن ذاك، الجنرال العجوز علي محسن الأحمر حليف الثورة الشبابية وحامي حماها.

هذه الأحداث والظروف مهدت للجماعة وساعدتها على استعادة أنفاسها بعد الحروب الست، كما مكنتها من التنكيل بخصومها والرافضين لها من أبناء صعدة والمحافظات المجاورة، إضافة إلى استعادة عافيتها من خلال السيطرة على إيرادات المحافظة، واستغلال حالة الانفلات الأمني لتهريب السلاح والمال الذي يهربه لها النظام الإيراني وبعض الأنظمة العربية، بالإضافة إلى سطوها على أسلحة المعسكرات الواقعة تحت سيطرتها.

كل هذه العوامل التي استغلتها الميلشيا واستثمرتها بذكاء وسرعة في ظل احتدام الصراع السياسي بين النظام وقوى فبراير وبتواطؤ من قوى الثورة لسحب البساط من يد الدولة وإسقاط نظامها وتحت مبررات انفعالية مراهقة تناست وتغافلت خطورة الأهداف المضمرة التي تسعى الحركة الحوثية لتحقيقها وإن كانت لم تعلن عنها بكل وضوح غير أنها لا تخفى عن كل متابع حصيف يعي ماهية الجماعة وطبيعة تكوينها العقائدية القائمة على أفضليتها وأحقيهتا في الحكم والولاية.

ومع استمرار الزخم الجماهيري وتسارع وتيرة أحداث العام 2011م، سعت الجماعة إلى تسويق نفسها واستقطاب بعض الكوادر اليسارية من الصحفيين والناشطين داخل الساحة وخارجها، من خلال تنظيم الزيارات لمعقل الحركة، وقد نجحت بتحويلها إلى أقلام ناعمة تلمِّع الحركة وتروج لها بوصفها قوة صاعدة وفتية ومظلومة ومحرومة من ممارسة نشاطها والتعبير عن رأيها ومزاولة نشاطها السياسي كمكون وطني مقموع وجزء من التنوع المذهبي الموجود في اليمن.

وقد ذهب الأمر بعيداً حد مساواتها من قبل هذه الأقلام بالحراك الجنوبي، فبذلت هذه الأقلام والأصوات كل جهدها وبكل الوسائل المتاحة لتفنيد الاتهامات والمخاوف الشعبية من الحركة الحوثية، ونجحت إلى حد ما بأن خلقت ما يشبه التعاطف الجماهيري عند كثير من عامة الشعب مع ما وصفته هذه الأقلام ب"مظلوميتها" أي -الحركة الحوثية- ليتحول تمردها على الدولة إلى قضية مظلومية وطنية مطروحة على طاولة الحوار مثلها مثل القضية الجنوبية، مطالبة الدولة بالاعتذار لها عن الحروب الست، وهو ما تم فعلاً في مؤتمر الحوار الوطني.

هذا الاعتذار ساهم في خلق حالة من التعاطف الدولي معها، وجعل العالم ينظر إليها كأقلية مضطهدة رغم القبض على سفينتين إيرانيتين محملتين بالأسلحة في طريقهما إلى معقل الجماعة، وبدلاً من تصنيفها كحركة طائفية إرهابية كهنوتية متطرفة وعميلة، كما كان يصفها الرئيس السابق ويحذر منها باستمرار في كل خطاباته هو وغيره من الأقلام الوطنية التي اعتبرتها امتداداً للنظام الإمامي الكهنوتي البائد وهو ما أثبتت صحته الأيام ولكن بعد فوات الأوان.

ولأن الحركة الحوثية ومن يقف خلفها كانت تخطط بصمت وتعمل على كل المستويات الميدانية والرسمية، فقد مثل الاعتذار الرسمي عن محاربتها وثيقة فتحت لها أبواب السفارات وأخرجتها من الكهوف إلى طاولة الحوارات وصناعة العلاقات كأقلية تمكنت من تحسين صورتها بانتهاج الوسائل السلمية بعد أن نجحت في تبديد المخاوف والشكوك حول فكرها الطائفي وتطرفها عبر من انتدبتهم واستقطبتهم من الإعلاميين والكتاب والحقوقيين، إضافة لما مثله الاعتذار الرسمي الكارثي من نقطة تحول في مسار الحركة وتموضعها على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي كحركة فتية يقودها ويتحدث باسمها الشباب المنفتح الذين استخدمتهم الحركة لتكريس وجودها السياسي وتغلغلها في كل مفاصل الحياة.

بينما ظلت الحركة تعمل من تحت الطاولة على تقويض الدولة والإعداد للانقضاض عليها في لحظة خاطفة وفرتها لها الجرعة السعرية المعلن عنها من قبل حكومة الوفاق الوطني حينها، مستفيدة من هشاشة الدولة وسوء الظروف المعيشية لعامة الشعب وبمساعدة خصوم الأمس ورغبتهم في الانتقام بعد أن تم التضييق عليهم وإقصائهم، إضافة لتذمر الشعب من ضعف الحكومة والانفلات الأمني، فبدأت في التنكيل والانتقام من حلفاء اليوم "الإصلاح" وغيرهم وبتواطؤ تام من القيادة التي أفرزتها احتجاجات فبراير ممثلة بالرئيس هادي ووزير دفاعه اللذين حيدا المؤسسة العسكرية وساهما بشكل مباشر في وصول الحركة الحوثية كفاتحة إلى العاصمة صنعاء، وقد تضاعفت قوتها وبكل ترسانتها العسكرية بعد أن أوصلتها "الثورة" كجزء من الثورة السلمية في بداية الاحتجاجات.

ومع كل تمدد للجماعة الكهنوتية لم يكن الخصوم وحدهم هم أول ضحاياها بل والحلفاء أيضاً. فقد سارعت للتنكيل بالإصلاح حليفها القريب وانتقلت للرئيس هادي وليس انتهاءً بالرئيس صالح.

لقد لعبت الحركة الحوثية بذكاء على كل التناقضات والنوايا المضمرة لكل تيار وحزب سياسي ضد الآخر ونجحت في تعميقها وساهمت بمساندة كل طرف ضد الآخر وتمكنت من خلخلة الجميع واستقطاب أو تحييد أو إرهاب كل مصادر القوة لدى كل طرف لتتسع وتتمدد وتتقوى على حساب انكماشهم وإضعافهم ليسهل لها ابتلاعهم واحداً واحداً كما حدث ويحدث حتى اليوم.

ومع أن ما حدث شرد ومزق الجميع بتخطيط وتنفيذ الحركة الحوثية الانقلابية الإيرانية، إلا أننا بدلاً من مشاهدة القوى والأحزاب الوطنية تتحد لمواجهتها وتحرير البلاد منها وجدنا كل طرف لا يزال من منفاه ينهش في دم الآخر عبر تخوينه والتشكيك في نواياه واتهامه في صدق معركته وتضحياته وتحميله نتيجة ما آل إليه حال الجميع، منشغلين بثارات الماضي وتوسيع النعرات التي استدرجهم الحوثي من خلالها وأجهز عليهم جميعاً، متغافلين عن العدو الرئيس وأنه كما استفاد من أحقادهم في الماضي يستفيد منها اليوم وقد صار هو الحاكم الفعلي في الأرض يبسط ذراعيه بالوسط على عاصمة البلاد بما فيها بيوتهم ومقرات أحزابهم وممتلكاتهم ويعتقل قياداتهم وكوادرهم.

كل هذه المقدمات والمماحكات والمكايدات والتناحر على السلطة حولت الحركة الحوثية الإمامية الكهنوتية من حركة متمردة على الدولة أنهكت بتمردها البلاد في ست حروب إلى مكون سياسي وجزء من مؤتمر الحوار الوطني والسلطة الانتقالية وبسبب تصفية الحسابات البينية صفر هو حسابات الجميع وانفرد بالسلطة وشرد الجميع.

ومع استمرار هذه المناكفات وتفتت القواسم المشتركة والطعن في مواقف ونوايا كل طرف وحربه من أجل استعادة الدولة من قبل الطرف الآخر، تحول الانقلاب الذي رفض العالم الاعتراف به وصدرت بحقه حزمة من القرارات الدولية المساندة للحكومة الشرعية، وبسبب طول أمد الحرب عليه، وبسبب نزعة الاستئثار لدى كل طرف تضرر من الانقلاب ومخاوف التحالف المساند للشرعية من بعض قوى الشرعية الموالية لبعض الأطراف الإقليمية المساندة للانقلاب والموالية لحليفه الإيراني، تحول الانقلاب إلى طرف من أطراف الصراع مساوٍ للشرعية بعد أن كان انقلاباً عليها.

نعم لقد تحول الانقلاب الكهنوتي الإيراني، كما حدث في مفاوضات السويد الأخيرة، من انقلاب يهدد أمن المنطقة إلى طرفٍ مفاوض وقوة مؤثرة على الأرض ربما أقوى من الشرعية، وما كان لها أن تكون لولا ضعف خصومها وتشتتهم واستمرار تناحرهم حتى رأينا المجتمع الدولي يشكك في نواياهم وقدرتهم على التحرير واستعادة الدولة والجمهورية التي تطمس ملامحها كل يوم، إضافة إلى تضارب مصالح الحلفاء.

وليس بعيداً إن استمر الوضع على ما هو عليه أن يعيش الجميع مشرداً، وأن يفرض الانقلاب الكهنوتي وجوده في المستقبل القريب، وأن ينفرد بالدولة ويعترف به العالم بعد أن تسنى ويتسنى له كل يوم الاستحواذ على وعي المجتمع وأدلجته، بينما يفقد الشعب كل يوم ولحظة ثقته بالشرعية المهاجرة، وبعد أن خذلت هذه الشرعية وغيرها من القوى الوطنية المحاربة للحوثي الأرض والإنسان وانخرطت في مفاوضات نعرف نتائجها سلفاً وشبع منها الشعب الذي يموت جوعاً وخنقاً تحت سلطة الانقلاب.