جلال محمد

جلال محمد

رسائل شعر أبيض

Thursday 21 February 2019 الساعة 05:42 pm

أذكر جيداً أي عام ظهرت ولماذا ظهرت؟ في زمنٍ  كنت أسعى لتوثيق علاقاتي وتدعيم أواصر المحبة بمن حولي وبشكلٍ واسعٍ، بجهدٍ كبير مني، وغالباً كان على حسابي وحساب راحتي، صفة سخيفة جداً  خصوصاً في حال أنك لم ترها تُثمر ولا تُزهر ولو لمرة واحدة!.


لفترة طويلة حاولت أن أكون ذلك المرضي عنه من قِبل الجميع، جاهدت أن أحقق لكل شخص أمله المنتظر مني، تفانيت في ألا أخيب رجاء أحدهم، صارعت مراراً لأظل الجيد في نظرهم وفي المقابل تنازلت عن الكثير.

لم أستوعب يوماً أنني مُهدد من قِبَل الوقت، لقد بلغت أعتاب الثلاثين  ومازلت أتعامل كمن سيحيا مئة عام، ما زلت لا أبالي بفكرة الوقت، في الحقيقة لم أنتبه أنه يجب عليّ الوصول في موعد ما تحديداً، ليس من المنطقي أن نحول الحياة إلى قطارات علينا اللحاق بها، إنني أرفض هذا.. باختصار لأنه شئ غير عادل، هناك من لا يحب اللحاق بالقطارات، هناك من لا يحب الزحام  وهناك من لا يلتزم بمواعيد القطارات ومحطاتها، أو لعلك ستعيش أكثر من راكبيه!

 بالنسبة لي ظهرت مجموعة شعيرات بيضاء تُخبرني: هناك بعض الأمور التي لا بد لك أن تتعايش معها، لأنك في كل مرة تقاتلها سوف تهزمك، بل تقتلك!.
كل مرة تشعر بالخيبة  الساحقة ذاتها، تلك التي صفعتك مع أول هزيمة تباغتك في كل مرة كأنها المرة الأولى، كل مرة تشعر بذلك المذاق الكريه، مذاق دم أملك الذي أريق، ذاك الأمل  في الحصول على نتيجة مختلفة عن المرات السابقة.

 كل مرة تختنق وأنت تحاول أن تشرح المشروح فتعيد وتزيد حتى تختنق بكلماتك وما يقابلها من ردود أفعال ككل مرة.

شعرة بيضاء تخبرني أنه حينما تكون الضحية يكون التسامح مع الجاني نوع من الخضوع، لا أستطيع فهم المتسامحين مع من ظلموهم أو خانوهم أو أهانوهم أو من استخفوا بشعورهم حتى وإن كانوا أقرب المقربين إليهم، لا أعتقد أن كسر الأرواح أمر هين، ولا أعتقد أن قتل الإنسان معنوياً بأي صفة وتحت أي مبرر أمر يمكن الصفح عنه، لا أعتقد أن البكاء ينتهي بتجفيف الدموع ولا أعتقد أن الذكرى مجرد لحظة ماضية، هناك من تنتهي حياته بشيء فعلته أو قيل لك، الروح التي أُزهقت لا تعود!.


من الغريب في الأمر أنه يصعب علي تذكر شعوري حينها، لكني أدرك جيداً أنه كان شعوراً مُؤلما.

 شعرة بيضاء تخبرني أن كل المبادئ التي تفانيت في تشييد قلاع وحصون حولها، بت الآن أتلذذ بهدم قلاعها وحصونها، كل الأشخاص الذين تعلقت بهم وظننتهم مُثل باتت ذكراهم تترنح بين البغض والألم، كل الأمنيات التي لطالما أشتهيتها باتت لا تسيل لعابي، كل مسببات السعادة التي حفرت نفسها بجدران قلبي باتت رفاتًا هي وقلبي وجدرانه!

 شعرة بيضاء تخبرني أنني على الطريق الخطأ، رغم أنني أعرف هذا جيداً، وأعرف أن الحالة التي وصلت إليها لا تناسبني، أدرك مدى خطورة استمراري في هذه اللامبالاة، ومتأكد ألا أحد غيري سيتحمل توابع هذا الطريق، أحفظ قصص الأمل عن ظهر قلب وبإمكاني أن أسردها جميعها.

أحلامنا لم تكن وهماً لكنها هُمشت، رغم أننا لم نتشبث يومًا بتلابيب الماضي الذي ترهبنا ملامحه، حتى ذلك المستقبل بتفاصيله المبهمة لم يكن ليستهوي فضولنا، نتحسسه بأطراف مرتعشة، ونقف في ذاك المنتصف المميت بين الماضي والمستقبل، شعور ما غريب يسيطر على الحالة برمتها، فعلياً لا أستطيع الجزم بأني أقوم بأي شيء وفي حقيقة الأمر مرهق وكأنني أحارب ألف شيء، مُتعب للغاية من أشياء كثيرة، ربما لا وجود لها سوى في خيالي.

 شعرة بيضاء تخبرني كم مرة هزمتني الصدمة؛ الخيانة والخذلان بدون الدخول في أي قتال، كم مرة ناجيت ضعفي وحزني الغائر وصمتي الرتيب... 

مع تزايد كل شعرة بيضاء؛ بت أدرك جمال كل مرحلة من عمري، تطالبني زوجتي بصبغ شعري وأرفض لأني أحب أن أرى كيف تحفر قصص الزمن  أخاديدها في ملامحي وجسدي وحتى عقلي، كيف باتت الأشياء عندي أعمق من القشور، وكيف المعنى الحقيقي لأن تنظر لنفسك في المرآة وتحب ذاتك وكيف أن الروح وحدها هي التي تحدد وجودك ومعناك وقيمتك وجوهرك، وكيف تسمح لكل الأشياء بالرحيل وتتقبل وتكتفي، وكيف لهذا الشيب الذي يشتعل في الرأس يرسل لك رسائله المبطنة لروحك إلى متى؟! ثم إلى أين ؟!