عبدالفتاح الصناعي

عبدالفتاح الصناعي

تابعنى على

نحن والسعودية تطرفات واندفاعات عاطفية وغياب للتوازن

Thursday 30 May 2019 الساعة 09:38 am

منذ بداية تبلور وعيي السياسي وأنا أكره التطرف ضد السعودية، كما أكره كذلك التطرف المُبتذل معها، أرى بأن المشكلة أكبر من هذا التسطيح والتطرف، الذي لن ينتج إلا مزيداً من الأزمات على مستوى الوعي والواقع.

ومنذ بداية أزمة مقتل "خاشقجي" حتى اليوم كتبتُ بما يصل إلى عشرات المقالات، وجميعها حاولت بها جاهداً الاتزان الأكثر دقة بعيداً عن التطرفات هنا وهناك، بعيداً عن الدفاع والتبرير المُبتذل، وبعيداً عن تطرفات الإدانة والاتهام.

مؤخراً تناولت العلاقات السعودية اليمنية بمقالات خاصة، داعياً الجميع إلى ضرورة المراجعات.

قلت في مقالي قبل الأخير متسائلاً هل نستطيع تحرير علاقاتنا المصيرية مع الشقيقة الكبرى من أطماعنا وأحقادنا وعجزنا؟! وهل تتهيئ الشقيقة الكبرى إلى علاقة كذلك؟!

على المستوى الشخصي في الفترة التي عشتها بالسعودية كغيري من آلاف اليمنيين الذين قصدوا السعودية بعد أن ضافت بهم اليمن وكان سفرهم بحثاً عن أمل آخر لتحقيق أحلامهم وتحسين حياتهم.. كما كنت أروض نفسي للابتعاد عن الإعلام والسياسة، في مرحلة صعبة من انهياراتي الكبرى، باستشعاري المبكر لبدء انهيار البلد حتى للنهاية.

وفي السعودية لحقتني السياسة اليمنية والرئيس والحكومة إلى هنالك، بعد شهرين من وصولي، فعدت للسياسة..

عملت مع سعوديين متناقضي الطباع حيث عزز ذلك من قناعتي بأن الأحكام العامة المتطرفة خاطئة تماماً.. سوء تلك التي تبالغ بطيب وأخلاق السعودي مقابل احتيال وخبث اليمني.. أو تلك التي تبالغ بتطرف بتعميم شر السعودي وخبثه وحقده على اليمني. كما أن مشكلة هذا التطرف بالتعميم والقناعات المسبقة ليست مشكلة يمنية فهي كذلك غالباً مشكلة سعودية.

وفي الحقيقة فإن هذه مشكلة معقدة جداً، ولطالما يميل البعض للتطرف، لكنه مهم مواجهتها وعلى الكُتاب والأدباء السعوديين واليمنيين بأن يقدموا إسهاماتهم الجادة في معالجة هذا التطرف، كقضية ثقافية واجتماعية، وكذلك الفن والدراما، فغالباً ما يقع الجميع في تأجيج هذه المشاعر المتطرفة بعيداً عن أي اتزان.

نعود إلى قصتي مع السعوديين الذين عملت معاهم. القصة الأولى: وهي أول سعودي أعمل معه وكان عبر الصديق الرائع "فواز منصر"، وكان هذا الشخص هو رئيس تحرير "صحيفة الخليج" الإليكترونية، وهو ذو توجه سلفي.
اشتغلت له عدة أعمال صحفية نشرها على موقع الصحيفة، لكنه كان يرفض أن يحاسبني ويمنيني بآمال كبيرة وبراتب مغر جداً، فعملت معه باندافع ليتضح بالأخير بأنه مجرد نصاب ومحتال، أنكر ما عنده لي من مستحقات تماماً، لكني كنت حاد اللسان جداً معه بتهزيئه وتدينه الكاذب.. فقلت له لو طلبت مني أن أسامحك لسامحتك ولا تكذب وتأخذي حقي ظلماً.. أي تدين هذا الذي تدعي، بعد أن أنكر وبعد أن كنت مؤدباً جداً معه بمرحلة المماطلة والوعود.

قصتي الثانية: كنت قد أشرتُ إليها في مقال سابق نشر في "عدن الغد" بعنوان "المعركة المصيرية إعادة هيكلة المخابرات السعودية"، وكنت قد تناولت الجانب الشخصي كأنموذج لشخصية عرفتها من رجال المخابرات والنافذين بالسعودية.. وبقدر ما كنت قاسياً وصريحاً بقدر ما كنت مخلصا بالنصح للشقيقة الكبرى، وما لم أذكره في هذا المقال هو أول ميولات هذا الشخص لكره وبغض اليمنيين بطريقة متطرفة ومتخلفة فأول لقاء جمعني بهذا الرجل المكنى "أبو سعود" واسمه سلطان الجوفي، في أيام الإعداد والترتيب لإطلاق قناة "الشرعية" بعد "العاصفة" بأيام قليلة، كان يكلمنا عن الشيعة بنغمة تطرف طائفية والكل يستمع له بإذاعن واهتمام ضقت من تطرفه وجهله وطائفيته المقززة، -وهكذا كنت معه دائماً- فقاطعت كلامه وقلت له "الشيعة ليس كلهم نسيج واحد فيهم جماعات دينية مختلفة ومتطرفة، وفيهم ليبراليوان ومعتدلون وفيهم من ولاؤهم لوطنه ولقوميته العربية، أصبته بالتلعثم وتفاجأ بي وبجرأتي وكانت بداية شرارة الحرب بيننا.

حاول السيطرة على الموقف لكنه اندفع نحو زلة لسان خطيرة، بعد أن قالها أدرك بأنه وقع في خطأ ما كان ينبغي، وحاول أن يغالط بتصحيح موقفة، فقال: بالطبع فيه شيعة وطنيون وذكر اسم مدينة سعودية لربما حدودية باتجاه اليمن وقال بأن أهلها الشيعة شديدون في موقفهم ضد اليمنيين.

موقف آخر مع هذا الشخص نفسه، كلفني بجمع أغان ومواد يمنية تخص الحياة اليمنية، فعملت على تنزيل أغان متميزة ووثائقيات كثيرة حول الحضارة اليمنية، اطلع عليها وتجاهلها تماماً، واختار أسوأ وأردأ ما جمعه موظفون آخرون لتكون فواصل ومواد ثابتة بالقناة.

أتساءل كيف لا يزال هذا الجاهل المتخلف -كما تصفه مقالات كُتاب سعوديين كُثر كتبوا عنه- يدير قناة باسم الشرعية، كما لا تزال الشخصية السعودية التي قادت المملكة لكثير من الفشل والمأزق هي من تتحكم بالملف اليمني! أين إصلاحات محمد بن سلمان التي استبشرنا بها؟!

القصة الثالثة: وهي مع الشخصية السعودية الإيجابية، وهي أنموذج تمثل حالة كبيرة وواسعة، في الشخصية السعودية المثالية والمتزنة والمعطاءة بكرم.

الأستاذ فواز السويد، يملك ويدير شركتي نقليات ومقاولات بالرياض، توظفت معه بالشؤون الإدارية، في مرحلة كنت فيها أكثر تمزقاً وشتاتاً ذهنياً إلى أبعد حد.

لقد دفع بي وشجعني بأن أستخرج فيزة طالب وأذهب إلى أمريكا لدراسة اللغة وتطوير نفسي، وقدم معي بأكثر ما يمكن أن يعمله معك أخ أو أب، فأعطاني كشف حساب الشركة البنكي الذي هو بالملايين وخطابا للسفارة، وتابع تحركاتي في الأمر باهتمام، وحين أخفق الأمر حاول مواساتي وانتشالي من يأسي بأنه لا يزال الأمر ممكناً، عبر تقديم جديد للسفارة الأمريكية في وقت آخر، لكني كنت قد فقدت حماسي للأمر.

ذات مرة أتى وأنا على مكتبي فاتح الفيس وتويتر مواقع أخرى بالجهاز المكتبي في العمل ضارباً عرض الحائط بكل الملفات وأوراق العمل أمامي، استمر وقتا طويلا خلفي يراقبني وأنا غير مدرك، أتنقل بين المواقع وأقرأ روايات وأشعارا، بكل لطف وأدب نبهني بأن علي الاهتمام وهو يضحك ويبتسم ويقول مش وقت الآن تقرأ قصائد نزار.

موقف آخر أخجلني كثيراً، طبعت له مذكرة للغرفة التجارية أربع أخطاء بحرف أو كلمة فينبهي ويعيد لي الرسالة لأطبعها مجدداً، وحيناً بعد أن كان قد ختمها ووقعها، وفي المرة الخامسة مشت الأمور على ما يرام، وبعد أن ذهب للغرفة التجارية وعمدها اكتشفت خطأ إملائي آخر، اتصل بي أعدلها دون أن يرفع صوته أو بغضب أبداً.

لقد كنت موظفاً فاشلاً تماماً مشتت الذهن مرهق بهموم وآلالام لا علاقة لها بوظيفتي السهلة، ولذا سرعان ما غادرتها، مقدماً استقالتي بقراري الشخصي، بل غادرت السعودية تماماً، وأنا ما زلت ممتناً لهذا الشخص بتعامله ومواقفه، حتى في أثناء مرضي بالأردن تواصل معي ووقف معي مادياً كأني ما زلت موظفاً عنده.

يتعامل مع موظفيه بكامل الرقي والمسؤولية ويقف معاهم بكل مناسباتهم السعيدة والحزينة كأب حنون، وأغلب موظفيه الإداريين يمنيون.

تواضعه هو تواضع الكبار، إلى حد أنه يمر على مكاتب موظفيه يسكب لهم القهوة، قد يغضب أحياناً لأتفه سبب لكثرة الضغط عليه، لكنه سرعان ما يعود إلى حالته الطبيعية كشخص أكثر رقيا وتعقلا واتزانا.

ما يهم من ذكر هذه القصة هو محاربة التطرفات بالأحكام التي تعمم موقفا واحدا على شعب بأكمله، فالرائعون موجودون كماهم السيئون موجودون، ولم أنظر بهذه القضايا بناء على خيال كاتب بل استناداً الى واقع ووقائع عشت تفاصيلها وتناقضاتها المختلفة.