سعيد الرَكْنَه

سعيد الرَكْنَه

أيها الناعقون.. كان لدينا وطن

Sunday 30 June 2019 الساعة 10:32 am

كمن يقف على أطلال أحلامه ليسترد ذكرياتها، أقف الآن تحاصرني "كان" من كل اتجاهٍ.

"كان" وحدها سيدةُ الموقف وفاتحة الوقوف لكل يمنيٍ نهشت الحرب بأظافرها الفولاذية قشة أحلامه بالمستقبل الجميل.

"كان" ترافقك في كل منعطفٍ وذكرى وانتكاسة لم تكن في الحسبان، ووحدها "كان" تومض في وجدانك وقد تحولت لسلسلةٍ طويلةٍ مترابطةٍ من الدموع يُجرجر بعضُها بعضاً لتبتلعك بداخلها.

"كان" هذه، شهرزادها بلادٌ ترثي نفسها وهي تقول: كان لكل أسرةٍ عائلها..

واليوم كل أسرة أكَلَ العويلُ وجوه أهلها بحثاً أو حزناً على ذلك العائل الذي باتت لا تحمل إلا صورته شهيداً أو سجيناً.

فقبل اجتياح البلاد كان شعبُنا، بكل طوائفه وأحزابه، يختلف في موقفٍ ويتفق في عشرات المواقف، ويُضرب به المثل في السلمية والتآخي والتكاتف، وها هو اليوم يأكل بعضُه بعضاً، وكل فصيلٍ يبيح دم الآخر وينكل به تطبيقاً لسنة مسيرةٍ عدوانية بدأت في "دماج" ووزعت سمها في باقي الجسد اليمني.

قبل التشدق بتمثيل السماء، كان الجميع أسرة واحدة وكل مذهب يحترم الآخر..

وفي زمن الملازم بات كُلٌّ يطعن في عقيدة الآخر وصولاً للطعن في كل شيءٍ من سب الصحابة والطعن في عرض النبي عبر الصحيفة الرسمية للبلاد.

حتى انقسام سكان البيت الواحد إلى منافق وداعشي ومرتزق وكل أخ يكفر أخاه، وربما يقتله لمجرد خلاف في وجهات النظر.

قبل تدمير واجتياح عدن المسالمة وحمل فتيانها المسالمين السلاح ببسالة لتحريرها بمساندة الأشقاء، كان الحديث عن التشطير تعبيراً عن حالة احتقانٍ حادةٍ ضد ممارسات سلطوية ومركزية مجحفة يمكن معالجتها إذا وجدت قيادة حكيمة تضع نصب عينيها إعادة الاعتبار للوحدة كقيمة ومنجز وتتبنى معالجة آثار حرب عام 94 وغيرها، وقبل ذلك إعادة الاعتبار لأبناء الجنوب وقيادته الذين بذلوا دولة بكل مقدراتها وحُرموا من خيراتها..

أما بعد الاجتياح المراني للجنوب صار الحديث عن الوحدة ضرباً من الجنون في ظل ملشنة الشمال وتدجينه طائفياً والسيطرة عليه كهنوتياً من عصابةٍ مشحونةٍ بالخرافة وأوهام الاصطفاء.

قبل الانقلاب كانت أسطوانة الغاز ب1200 ريال وفوق ذلك تصلك إلى باب المنزل، أما اليوم فلا تجدها إلا بستة آلاف ريال وبعد طوابير وأيام من الوعود وقد تنفجر في أية لحظة لخروجها عن الخدمة.

وكانت "دبة" البنزين ب2500 ريال ووصلت اليوم إلى عشرة أضعاف بعد 21 سبتمبر المشؤوم.

قبل انقلاب الحوثي كنا نعيش راضين ولو بالقليل، ونقف على مشارف استعادة الحياة بعد ما عاناه الشعب منذ عام 2011م.

وها نحن بعد أربع سنوات عجاف نترحم على الماضي بكل فساده، ونحتشد في المقابر كل يوم ونتمنى الموت قبل أن نموت عوزاً.

قبل انقلاب الحوثي كانت قد ارتفعت رواتب موظفي الدولة وبدأ أكثرهم يفكر بالرفاهية كغيرهم في باقي البلدان وبالدراسات العليا..

وبعد الانقلاب لم يستلم موظفو الدولة راتباً واحداً مكتملاً منذ ثلاثة أعوام، وفرضت عليهم دراسة الملازم وملحقاتها من خرافات الجهل والتخلف والوصاية والولاية والإمامة ومخلفات التاريخ، وتم الاستغناء عن الآلاف من موظفي القطاع الخاص.

قبل نكبة الحوثي كانت اليمن وخيراتها والوظيفة لكل أبناء الشعب رغم المحسوبية والوساطات التي كنا نتأفف منها..

وكنا بعد مؤتمر الحوار على مشارف توزيع السلطة والثروة لتنعم كل منطقة بحقوقها وحقوق أبنائها.

وفي زمن أعداء الله صارت الوظيفة تُمنح باللقب والنسب ويطرد أبناء الشعب من وظائفهم، وتقسم خيرات البلاد بين أدعياء النسب ومشرفي السلالة، والشعب يموت جوعاً وتفرض عليه الجبايات.

قبل جائحة الكهف كنا نحلم بمواكبة التطور الرقمي لنصبح جزءًا فاعلاً فيه..

وفي زمن المسيرة "البردقانية" عادت لتشدنا إلى الوراء الأيادي الملوثة بالدماء وأوهام التمايز العرقي وتحني جباهنا لتقبيل الركب، وتحملنا قضية الثأر للحسين، وتدعونا لتربية الدجاج والمواشي، وتسوقنا إلى الموت بدلاً من الجامعات، محطمةً الرقم القياسي في الفساد وسرقة المعونات وتلغيم المدارس والمنشآت الحكومية وحجب النت والمواقع الإخبارية، وكل وسائل الحياة.

قبل أن تفوح روائح فئران التخلف كان الناس يتحدثون عن السوق المفتوحة والتجارة الرقمية والقرية الكونية، وفي زمن فئران الخراب يتقاتل الناس على قنينة بنزين، ويتسابقون لشراء الحطب وجمع الكراتين لطهي الطعام في عاصمة السوق السوداء، وينتظرون في بعض المناطق بالساعات لتصل رسالةٌ أو لإجراء اتصال لرداءة الشبكة وكأننا نعيش في كوكب بدائي.

قبل الانقلاب كادت الأوبئة أن تصبح نسياً منسياً، وفي زمن الذباب السلالي عادت الكوليرا والدفتيريا والجدري والقمل وأغلقت مصانع الأدوية، وأصبح الماء البارد حلماً، والكهرباء التحقت بقائمة المخلوقات المنقرضة.

قبل مسيرة الجوع كان الناس يأكلون اللحم والسمك، ولو يوماً واحداً في الأسبوع، فجاءت الصرخة وسرقت من أفواه الناس الجوعى فضلات العالم وتحولت الإغاثة لتجارة رابحة تبنى بها بيوت وعمائر أولياء المسيرة وزبانيتها.

قبل الانقلاب كانت تقل نسبة الأمية عاماً بعد عام.. وتبنى المدارس، وفي زمن المتارس دمرت وأغلقت عشرات المدارس والجامعات وعجز الفقراء عن تعليم أطفالهم وقلَّت نسبة الالتحاق بالجامعات، وصارت صور الطلاب تنوب عنهم لتحضر حفلات التخرج بعد أن صاروا يختبرون في قبورهم وتعلق الشهائد على الأضرحة وتحول حملة الشهائد إلى شهداء.

في زمن الجهل تحولت المدارس إلى مخازن أسلحة ومراكز تدريب وتدجين وغسل أدمغة وساحاتها والساحات الخالية والمجاورة إلى مقابر، ونسي المتعلمون ما درسوه وعادوا للحِرف اليدوية والأعمال الحرة.

قبل الفتنة الحوثية و"نهقتها" كانت المساجد في كل يوم جمعة تفيض بالمصلين، بل وتغلق الشوارع المجاورة لها.. وفي زمن "العردان الساقط" لا القرآن الناطق تحولت المساجد إلى مجالس للقات طوال الأسبوع، وفي كل جمعةٍ بالكاد يكتمل الصف الأول في كل مسجد، وفضَّل الناس الصلاة في بيوتهم.

قبل الانقلاب كان المتعلم هو من يشرف على الأقل علماً وبعده صار الأمي الجاهل هو من يتحكم ويأمر الأكثر علماً.

وكانت لوحات الإعلانات والجدران تزدحم بأخبار الفعاليات والمهرجانات، واليوم تتزاحم فيها صور المغرر بهم في معركة لم يطلق فيها عبد الكهف طلقةً واحدةً، وقتل من أجل وصوله للحكم آلاف الشباب والنساء والأطفال.

من يصف حرب تدمير البلاد وإهلاك الحرث والنسل بمعركة الكرامة يتسابق أبناء الشعب في زمنه على براميل القمامة بعد أن أطلق لصوصه وكلاب مسيرته على أقوات الناس وابتزاز التجار والمتاجر والمراكز التجارية ليدفع المواطن ضريبة كل ذلك.

قبل المسيرة الكهنوتية كانت الدولة تكرم كل عام دفعات من حفظة القرآن الكريم، وفي زمن الحوثي لم يسلم حتى حفظة القرآن الكريم في الجامع الكبير وغيره في الشهر الفضيل، إذ قاسموهم ما يحصلون عليه من أهل الخير.

قبل تحويل البلاد إلى كهف كبير معزول عن العالم يعمل ضد محيطه العربي والقومي ويستهدف أمنه خدمةً لأجندة إيران وأطماعها التوسعية كانت اليمن صمام أمان للخليج العربي وحجر عثرةٍ في طريق كل المتآمرين على الأمة العربية كما ينبغي أن تكون..

وفي الأيام الأولى للانقلاب تحولت صنعاء العروبة إلى عاصمةٍ إيرانيةٍ -بحسب تصريح ملاليها- وإلى ذراعٍ مجوسيةٍ تخريبيةٍ تنخر في جسد الأمة وتقتل وتهجر شعبها وتدمر مكتسباته بيد الغوغاء من أبنائها وتنتظر مؤتمر المانحين ووصول المراقبين والقوات الأجنبية لفرض سيطرتها بترحيب من رافعي شعارات الرفض للوصاية.

قبل غبار التاريخ كان لدينا جيشٌ ودولةٌ ورئيسٌ يساندهم العالم برغم كل علاتهم، والآن لدينا عشرات الميليشيا وعشرات المنافي وعشرات الرؤساء والبؤساء ووطنٌ ممزقٌ يحاول العالم ترقيعه وهو يتصدر قائمة الكوارث الإنسانية ويسعى لإقالة عثرته الأشقاء بمحبةٍ محاولين المحافظة على وحدته واستعادته من يد "شيعة الشوارع" المختطفين له خدمة لطهران وغيرها من دويلات الخسة والخيانة.

وأخيراً... لا بد أن نتكاتف جميعاً بمساندة الأشقاء لنستعيد وطننا المخطوف مهما كلفنا الأمر، لأن بقاءه بيد عصابة الشر كارثةٌ ستطال كل يمني -وقد فعلت- وكل عاصمةٍ عربية لا المملكة وحدها.

وعلينا أن نُخرس كل الأصوات النشاز الناعقة بالنكران والداعية لانسحاب التحالف العربي -أو بعض أطرافه- متناسيةً حجم تضحياته لأنها إنما تخدم هذه العصابة بقصدٍ أو بدون قصدٍ، وتسعى لتقسيمه وإخراجه من محيطه العربي وتسليمه على طبقٍ من ذهب لإيران الفارسية وأذنابها ليصبح خنجراً في خاصرة العروبة وساحة تحاك فيها وتنفذ منها مؤامرات التخريب والتمزيق وتأجيج الفتن الطائفية والمذهبية في كل المنطقة وتهديد طرق التجارة والملاحة الدولية واستعداء العالم.