فوزي العريقي

فوزي العريقي

حاولوا أن تحبوا تعز

Thursday 17 October 2019 الساعة 10:49 am

تعز المدينة التي طالما سحرت زائريها، كتب عنها الكثيرون، كل يكتب من الزاوية التي نظر إليها.. وتبقى تعز هي حادية المدنية والثورات في شمال اليمن في العصر الحديث، وهي ريف عدن التي رفدتها بخيرة أبنائها؛ قرابين في مسيرة الكفاح ضد الاستعمار البريطاني والحكم السلاطيني؛ وفي مسيرة البناء والتنمية..

كتب الأستاذ إبراهيم جادالله الكاتب في صفحته بالفس؛ ما يلي:

أحبوا تعز كما أحببتها، وكما أحبتها الخالة خولة

عن خولة اليمانية أتذكر، وأحكي

تعرفها حوائط وشوارع وأزقة وأسفلت حوض الأشراف بسوق الصميل بتعز اليمنية.

إنها ذاكرة أجيال مروا وعبروا، أو مروا واستقروا.

أطيافاً مختلفة من بشر، يمانى وسورى وصومالي وحبشي ومصري أحياناً، والأعمار ما بين التسعيني، وطفل الخامسة

إنها أم الحوض وكل الأحواض التي لا تجف.

يطل الصباح وتخرج خولة تحمله في كفيها، وعلى رأسها «قفتها» أو صحنها المليء بالبطاط الساخن، وأحياناً التين /البلس الشوكي، والدجرة، ثم تنكة صغيرة تجلس عليها، كملكة متوجة بمشقرها.

وفي رمضان يكون اللحوح سيد الصحن العريض أو الخوص«الفتر».

أتذكرها، وجيداً

وكنت كلما مررت بها، أتأملها بإعجاب عظيم، وأتمنى أن أكون غصناً في مشقرها.. فمن تلك “القفة” ودست البيض والبطاطا وصحن اللحوح، ربت أولادها، وواصلت مشوارها مع أحفادها، حتى غادرتها أنا

كافحت وترملت وقاومت كل تجاعيد الزمن المهيمن والموحش، ولم تكن تلك العروق النافرة في يديها دليلاً، لكن العمر كان يتوهج في ضحكة ومشقر خولة، الذي لا يعرف الانكسار، ويستمر ما دام نبضه يتعالى في وجود وامتداد الحفيد..

خولة اليوم لا أعرف أين أنت؟

لا بد أن الأولاد قد كبروا وتزوجوا وأنجبوا، وقد يكونون قد صاروا جدوداً، وأنك قد ارتحت تماماً من تقليب الحياة بأكفك ليعيش أحفادك، أو ما زلت تكدين ليل نهار من أجل تأمين حياة كريمة لهم، بتعليم، وحياة آمنة أفضل وأسعد من حياة الشقاء والضنك التي عشتيها وعاشتها وتعيشها كل نساء اليمن الآن بعد أن (تحوثت) شوارعها وحياتها أو (تعفشت).

أسمع خولة جديدة تشبهها تصبح علينا بصباح الخير والرضا، وفي المساء ستمسي علينا بيسعد مساكم بأجمل مساء..

فما تزال خولة موجودة في الحر والبرد والمطر، تزيح صحنها المليء، باللحوح إلى أقرب جدار، أو باب دكان، حتى يكف المطر ويصحو الحوض، وتبدأ تتربع على “التنكة” الكرسي الوثير لكل من يبحث عن لقمة شريفة ولا يمدها لأي مقام كائن من يكون.

خولة صهيل الريحان التي لا تذبل في كل الفصول، والزنة الجبلية الملونة، والمقرمة المشجرة المعصوبة على الرأس، فلا تعكمه ولا تقترب من الوجه فتخفيه كعورة، يظل وجهها متفتحاً ومفتوحاً على الضوء والشمس والحياة.

كانت تحدثنى وهي تتحسس الشوك في يديها الصلبتين، يساعدها الملقط، فتتمتم: _ يبدو أن النظر رك، يا ولدى.. ولم تكن تتنهد، بل تبتسم غالبا.

خولة اليمانية حكاية لا تنتهي من حكايات طويلة ممتدة لا نهائية، ذاكرة يقظة بي دائما من الزمن اليمني الذي عشته، تروي حكايات الشارع، ومن رحلوا، ومن بقوا على قيد الحياة، ومن يولدون ويزهرون، لم تكن تعير للبطالة بالاً، بل كانت تتباهى بأن الحياة مفتوحة لكل من يكد ويتعب، ويأكل لقمة حلال.. فلسفتها: أن الحياة لا تغلق أبوابها في وجه كل إنسان يحيا بكرامة ولا يتسول بؤسه، ولا حتى ثوراته، ولا يبيع تمرده في سوق نخاسة المشايخ والعسكر والمنفلتين واللصوص.

خالتي خولة، الآن أقولها بدمع التذكر والاعتزاز فى عصر الحوثيين والدواعش والعفاشيين وجه من تعز، وجه للمرأة اليمنية العابر للشمس والضوء والأفق، أتذكر اليمانية العاملة وكل خولة عاملة بصمت، تعمر وتكبر وتمنح عطاياها، ولا تنتظر. فتحمد الله عندما تبيع وتحمد الله أكثر عندما تبخس.

أصرخ فى وجه الذين لا يحبون تعز مدينتهم؛ ويعبثون بمفاصلها، ويشتغلون بالوكالة لتدميرها:

خالتي خولة كانت درساً في المحبة، صحن الخير والقناعة / الكنز..

كانت التنكة التي تجلس عليها أعظم مقائل المشايخ فى بكيل أو حاشد، وأرفع مقاماً من كل كراسي عفاش، وأقوى من ترسانات السلاح التى ادخرها لتدمير مدينتها التى حفظتها فى تجاعيد الوجه والروح.

خالتي خولة التى كانت معلماً من معالم حوض الأشراف وسوق الصميل، والشماسي، والكمب، والجولة، وشعب الدبا، وو و.. إلخ

في حضرتها كان الأنس بطعم آخر مختلفا: للناس، والباعة، والبيوت العتيقة، والأزقة الدافئة، والجدران المشرخة المقشرة، الكل يأنسون لتواجدهم مع بعض، وكأن وثيقة عهد مقدسة غير مكتوبة، تجعلهم يواصلون مشوار الحب، والخوف على بعضهم، وعلى كل من مر وسكن الحوض، حتى الغريب الذى كنته أصبح أحد أفراد الحوض المهمين، كل يمد الآخر بالحياة، ليستمروا، كانت عشرة عمر، ووثيقة محبة وتعايش مغموسة بالعيش والملح.

السلام عليك ياخولة السلام

وسلام على حوض تعز، الذي لن يجف ما دامت تحرسه وتصبح وتمسي عليه امرأة اسمها: خولة.. أي خولة.

* * *

أبناء تعز اليمانية التى أحببتها فأحبتني

من أجل خولة وصحنها وقفتها المليئين بالخير

من أجل مشقرها وأكفها المعروقة المتشققة

أحبوا تعز

آمنوا خوفها

تذوقوا بطاطها وتينها ولحوحها

حتى يكون بينكم وبينها عيش وملح

كما فعلت أمكم خولة.