عبدالحليم صبر

عبدالحليم صبر

تابعنى على

الرحيل المبكر

Saturday 30 November 2019 الساعة 10:03 am

كنت أحاول ألا أكتب عنه، ربما لشيء اعتقدت حينها أنه منطقي بالنسبة لشخص يعتبر رحيل العظماء مبكراً قبل كشف سر هذه الحياة أمرا مشكوكا فيه، وبعد أن توارى جثمانه خلف الاحتمالات البعيدة، اعتقدت أن المنطق في حسابات الحروب هو أصلاً بوابة خلفية للهروب من مواجهة الرحيل غير المتوقع في حساباتنا الخاطئة وهو ما حدث لي برحيل الصديق النبيل محمد القدسي، رحمة الله تغشاهم جميعاً.

عدم تقبلك خبرًا ما، أمر ليس بالسهل، كما انه لا علاقة له بحساباتنا الصحيحة والخاطئة، لانه ببساطة لو أخضاعنا حياتنا لحسابات مهما كانت المخرجات، لكان الأمر في رحيل أبكر ورفقائه مختلفا على أقل تقدير من باب أننا خلقنا في "بقعة" من الارض يترأسها عبدربه منصور هادي، من الضرورة أن يطول ربى في عمره، حتى تكتمل حقلة "مئة عام من الدمار".

لكن أمام هذا الامر لا يتوقف عند صاحب "البقعة" هادى منصور وحده، فهو أيضاً يتعلق بصورة واضحة مباشرةً بالامة السمجة (..)! التي يأتي انتصاراتهم برحيل زعمائها، وهذا ما حصل من قبل اصحاب شعار "المخا حقنا" عندما سمعوا برحيل قائد جبهة الكدحة التي تعتبر بوابة المخا الشاب الجمهوري أبكر سيف فارع.

برز كقائد يحمل على اكتافه هم المدينة التي انجبته، مثله مثل مئات الأحرار، في حين تنصل آلاف العسكريين من أصحاب النياشين والاوسمة عن حماية المدينة، وتقدم صفوف المهمة الوطنية كقائد استثنائي في توليه ادارة أمن المديرية سنة أولى وثانية حرب، استوعب كل تغيرات المرحلة، بشقيها الأمني والعسكري، قاد نجاحاً امنياً يكاد يكون الأفضل بين المديريات الريفية، ولعل ما يميزه أنه صنع مناخاً طبيعياً يعيش فيه جميع المواطنين، تحت سقف الأمان بمن فيهم النازحون القادمون من شتان البندقية، والتجار الهاربون من رائحة البارود، والطالب والمعلم والطيب في مديرية محورية محاددة لست مديريات اخرى تعتقلها المدفعية والاشلاء.

عاش بين الناس ولصيقا بالمسؤولية وفي عمق الحقيقة وبين البسطاء ومن اجل قضايا المواطنين، لينتقل بعد ذلك إلى جبهة القتال بجيش وتجييش وتحفيز كل أبناء المنطقة في الدفاع عن قراهم من عنجهية وبطش المليشيا الانقلابية عندما استماتت في تشتيت أشلاء.

ومع توسع رقعة الحرب في هذه المديريات الريفية، توسع مهامه ومسؤوليته، حيث شكل سياجا أمنيا بالتعاون مع رفقاء السلاح لحماية الإنسان من اي خرق تحدثه مليشيا الحوثي، ليجعل من هذه المهام الوطنية أولى خطواته نحو إعادة مواطني الكدحة إلى مربع المواطنة والمسؤولية تجاه انفسهم، ايضاً عمل على تأسيس خارطة جديدة لهذه المناطق تعيد لها هوية الانتماء، بعد ما كان قد افل حضورها، بسبب سياسات مقصودة، مورست بحق الإنسان والجغرافيا منذ عقود، حولتها إلى مناطق تجاذبات وتناحرات.

أبكر، شاب ثلاثيني العمر، خريج كلية عسكرية، وحين تجلس معه، تشعر كم انت محظوظ ان يكون لك صديق يحمل صفة القائد ونبل الانسانية ووعي الملهم، جل اهتمامه واولوياته في زمن البندقية، ان تعود الكدحة بأطفالها ونسائها وشيوخها لتزرع ما كانت عليها يعتمد أبناؤها من مورد رئيسي يعزز صمودهم واستمرار بقائهم أمام الغياب المتعمد للدولة لسنوات مديدة.

من يعرف أبكر سيدرك حجم الخسارة التي اضيفت إلى خيباتنا وانكساراتنا المتتالية، ليس لأنه الانسان الذي عشناه عن قرب، ولا لأنه القائد الذي صنع انتصاراته في جبهة الكدحة، ولا لأنه النبيل الذي عمل من أجل الناس، بل لأنه صنع ثقة الناس بأنفسهم، ليشكلوا اليوم سدا منيعاً، أمام تربص الأعداء، ويضمن أمن المخا.