نجم المريري

نجم المريري

المخا.. مدينة بلون ومذاق الملح

Friday 28 October 2022 الساعة 05:25 pm

قبل أن يتعلم الإنسان الإبحار كانت الأشياء تنتهي حيث يبدأ البحر، بقي هذا الاعتقاد يعززه ما يخلفه مد البحر من ملح.

في أقاصي البحر ضل هذا الإدراك طريقه، عاد الإنسان على ظهر ابتكاره الأول، مرزنما بالحكايا والغرابة عن كائنات تشبه الإنسان عدا أنها تُضفي إلى مأكولاتها طعم الغرق.

تسكن الخرافة روح المكان العابر في الصورة، في البعيد وإلى الخلف تتلوى البيوت في الريح مختلطة بالغبار والورق وأكياس النيلون.

نحن في قلب الخارطة الأرضية، قرب البحر ليس للمخا خارطة أو طريق، للمدينة لون ومذاق الملح، عتيقة كلونه، لاذعة كطعمه، وربما كان هذا ما يعنيه بقاؤها المُعَمّر كشيء مهم، وضروري جدا، ضروري إلى قدرٍ ضئيل.

لقرون ظل اليمني يتعامل مع أهم ما فيه، مع قيمه الوجودية كشيء فائض، غادر سهول وأراضيَ تحرثها الطيور وذهب لابتداع الحجنة والعطيف ومشارط الصخور وامتهان المشقة والتعثر والنظر إلى أعلى، كان النزول إلى السهل دونية لأولئك الذين في الجبال، في المقابل بقي القدوم من الجبل بالنسبة للساحل مرتبطاً بذاكرة السيول وما تحمله من مجارٍ وتفاهات.

ذوّبت المخا اليوم هذه المشارط التي سلخت اليمني عن هوياته وهواه وعما يهوى، ملأت ولو بالملح كل المسافات التي بقيت مفتوحة ومتقرحة كجروح. في المخا وحدها يتجرع اليمني اليوم ثمن الهروب إلى الجبل، ويدفع جانبه الآخر ثمن غرق الرؤوس في الرمل، يعطي الجبل للبحر رأسه ويعطي الساحل للجبل صدره، ويتبادلان الأقدام والنضال في مدينة لها توهج الملح حين يتلون بالضوء والبخار، ومذاق الملح حين يسكن الذاكرة، لكنها وياللمفارقة تأبى أن تذوب...!!

إنه الموسم الذي تتضور فيه المدينة بالغبار، تهب العواصف مجترة في طريقها الأقدام والألوان، أصوات الكائنات وجلود الناس.

الرياح شديدة في قلب المدينة خفيفة وناعمة في الأطراف، كما لو أنها صادرة عن قوى كونية دُفنت في المنتصف، وهكذا، ودون سابق تخطيط، تجد نفسك مدفوعا تُجاه البحر.

في البعيد حيث يخلو المدى من المنازل الآدمية، يُعيد البحر للسماء فرصة عناقها الشفاف والرطب بالأرض وبه يتوحد الإنسان، يشف ويتجوهر، يذوب من السطح ويتجلى عن الاعماق، مشرعا من الداخل، يُلقي إلى البحر صخرة سيزيفه الخاص، يضع في فم النسمات ما تفتح من جسده وظله وأكفه المثقبة بالاسمنت، دافئة كالحنين وخفيفة كنسمة تمر الأضواء والأرجاء والأشياء من خلاله، تعطي هذه الصورة الرائي التفسير الجمالي لحرمة البناء على الشواطئ، حيث ينتصب الرخام مثل الخطايا في مناطق أخرى مشابهة.

قادتنا الرياح إلى هنا، يتوسط الشاطئ المسافة التي تمتد بين المخا وذو باب، تتكوم على صدره أكواب من الملح، تُركت للجفاف، قليلة هي أحواض اللممالح مقارنة بما أنتجته من أهرامات جاهزة للنقل وربما للاستخدام، في حفريات صغيرة تصطف عموديا وأفقيا كرسم بياني يغرق جزء من البحر، يفقد أنفاسه، وتتصاعد في البخار فيما يتفتت هيكله العظمي إلى ذرات صلبة من الملح، وروح تملأ الأفق وتخشى الرخام...!!