عبدالسلام القيسي
المعركة الوطنية وأسئلة مسارات "الهلفتة"!
كل التساؤلات القادمة من خلف الأماكن والأشياء والمدن والبحار والمعارك والجبال والسنوات والخسارات تشعرني بالتقيؤ.
وتشعرني بضعفي، وأصيح كم أنا أحمق بإهراقي حشاشة العمر لأجل معنى مجرد.. ولو ضعفت أمام غبائهم سأتخلى عن القضية، فلا يستحقون.
أسئلة غبية.. أسئلة جاهلة، بلا مبدأ، وكلها تساؤلات تترجم الاستلاب الروحي لهذه المرحلة من البلاد.
فلا قضية ولا نضال، وبلا دافع وطني، أو جمهوري،بلا أي معنى..
لذا يستحق هذا الشعب مزيداً من البؤس؛ نكاية بعقليته المتردية..!!
يسألونك، هل تزوجت؟
لم أتزوج.. يجيبك: أنت واحد أهبل ولوما تزوجت بالمرحلة هذه لن تتزوج البتة!
كم تملك رصيداً في البنك؟
أحتفظ بإيماني في بنك المعركة.. ينصعق السائل.. أنت بلا هدف ولا غاية.
هل لديك أرضية؟ لدي في بلادي أراضٍ ممتدة مدى البصر، ولم أهبط، بهذه المعركة، لأشتري أرضية أو بيتا جميلا.
وددت لو يسألوني: هل لا زلت مؤمناً بالمعركة كما عهدناك؟، وأود لو يسألوني كلهم، متى ستعودون بالنصر؟، وهل هناك أمل؟ وماذا نفعل؟
واحد بالألف، أو من الألف، يعيد لي روحي بسؤال كبير كل مرة، ماذا تفعل؟
إياك أن تتخاذل!
ذلك الواحد، ومثله القلة المكرمون، كلما قرأ مني حرفاً انهزامياً يصيح بي: وإن شعرت بالضعة ولو شعرت، عندك، بتلاشي أمنيات التحرير: لا تكتب ذلك.
واحد من كل ألف سؤال ألمس فيه تسامي وروح القضية، وأما البقية فكلهم أو جلهم يبحثون في جيوب قلبي عن المكاسب!
يريدون فضولاً معرفة قدر ما ربحته بهذه المعركة، وينعتوني بأقذع الألفاظ، وهؤلاء هم أصدقائي، الذين وددت لو أنا وهم بصعيد واحد ومعركة واحدة..
فضلاً عن حيادهم ويريدون الوطن أن يعود الى أحدافهم من تلقاء نفسه.
يصرون على جرك إلى مسارات الهلفتة، ولا يتركونك تعيش المعركة هذه بكامل تضحيتك.
ويجب أن تصبح مغترباً تجمع الأموال وكأنك في الخليج، أو خلف بحر الظلمات، لتعود وترتاح إلى الأبد.
أنا في الساحل الغربي، بيني وبين بلادي مسافة صوت.
أشارك رفاقي هذه الملحمة، كل فكرتي التحرير، والمعركة الوطنية، والتضحية ولو بدم قلبي، وكل ما أملك، ولم آت لأكون ماكينة فلوس، تجمع الشوالات، وإن تقاضيت شيئاً فهو ما يكفل لي الحركة والفائدة للمعنى العام.
وأقسم بشرفي، وشرف جدي، لو أنني بسعة وأتسع، بحركتي، من حر مالي لما تقاضيت أجراً واحداً.
هذا الأجر ليس لي، عندما أقبض راتبي القليل، لا أراه لي، أراه للجغرافيا، جغرافيا العقل والقلب، جغرافيا النشاط.
النشاط لأجل هدف نبيل.. هنا وهناك.. تواسي هذا وإن قصرت كثيراً، مع آخرين، وتسند ذاك، وتغوص بعمق الناس، تعلمهم وتتعلم منهم.
تعيش حرارة الفوهات الحامية، ولا تسمح لمعنويات الرجال بالانهزامية.
فزيارة ربما تنقذ متخاذلاً وكلمة تقيم روحاً.
أن تقضي جل وقتك وأنت تحاول زرع الأثر، تحدث مع صاحب المطعم، عن القضية، وامنح المباشر مبلغاً لائقاً ليحترم قضيتك.
وذات مرة كنت عائداً إلى تعز، تعرفت بالسيارة على كهل تخطه الشيخوخة، عاد من الساحل بعد رفضهم لكبره أن يتجند، قال لي: تسلفت خمسين ألف قديم سلفة.
شعرت بالبؤس..
حدثني وهو لا يريد أي شيء، عن همومه، وشعرت بالكآبة كوني أعرف، وبكل صدق، أن قرارة نفسه ستكرهنا.
سيتحول إلى صوت صادق ينال منا بعفوية.
فأخذت رقمه، وصلت المدينة، لحقني راتبي، قسمته وإياه مناصفة، ومن عمل آخر زدته على ذلك، كمبلغ محترم، اتصلت به، تواجهنا في المركزي، منحته المبلغ، وحدثته، قلت له: هذا المبلغ من القائد، يعتذر منك، خذ حاجاتك لأهلك.
ويقول لك: أنت كبرت، وأنت أب، والنضال للشباب، ولا يليق بنا تحميلك ما لا تطيق، وهديته هذه مقابل خسارتك، المبلغ هذا.
رأيت عينيه تبرقان، تلمعان كصبيحة عيد.
وقال لي بعين مغرورقة بالدمع والامتنان: كنت حوص بحق المروح، قله الله ينصره.
أنصرفت، وأقسم لم يعلم بي أحد، ولم أحدث أحدا من الخليقة، وثالث يوم وأنا ضيف بعد غياب طويل استلف القات من مقوت معروف، ونسيت ما قدمت.
فأنا فعلت ذلك صوناً للقضية من كهل انكسر قلبه وخوفاً من حديثه للناس عن كيفية رفضه وسيوجد كرهاً مقيتا للقضية.
فتحاشيت ذلك بموقف سينسيه كل شيء، ويحدث الناس عنه، وهنا لم أربح أنا بحديثه عني وقد جهلني، ويجهل اسمي، بل كسبت هذه المعركة، وسيرة هذه الملحمة.
موقف واحد فقط، وأنا لا أفتخر وأتيه بما فعلت، ولست من هذه النوعية، بل لأشرح لكم الواجب، وأن المعركة ليست وظيفة، كنت صحفياً أو جندياً أو أي شيء، بهذه الدائرة المسورة بالرجال، بل أنت قائد، لديك مهمة، واجبك سد الثغرات، كل ثغرة تستطيع سدها.
وقد تعلمت ذلك من أهلي، قبل نذر الحرب، وعائلتي التي تجود للناس بكل شيء.
واذا انتدبت لأمر فجود لأجله بحشاشة الروح.
كان عمي يهب كل جيوبه للناس ويعود البيت خالي الجيوب، وأجمل بكثير من كرمه هو تصالحه مع العطاء، ينسى كأنه لم يفعل.
النضال أن تخسر، وقد خسرت كثيراً.. استدنت كثيراً.. وأعطيت كثيراً بتفاصيل صغيرة، لأجل غرس معنى، وأشعر أن روحي تكبر، أكبر وأكبر،
وما أمنحه للمعركة ليس ديناً على أحد، بل واجب أقدمه.
لذا متى حان الحين سأتزوج، وسأشتري سيارة، وأثث بيتاً جميلاً، وأفعل أشياء كثيرة؛ كون الوقت، قد حان، وليس كوني اغتربت بمعركة وربحت.
سأتزوج من حر مالي، من تركة أبي، ومن عرق جدي، فبئس الرجل الحامل بندقيته فقط لأجل أن يتزوج، أو لأجل راتب، ولأجل أي مكسب، بئس الرجل هو.
والأفضل بمن يفعل ذلك أن يبحث لنفسه عن عمل حر، يجني أكثر، دون أن يغصب روحه على مبدأ لا يناسبه، طالما همه ومهمته الفلوس، وليست القضية.
فليغادر مجال الخوف، والانتظار الكئيب لموت شارد، فأنا روحي ثمينة وأثمن من الارتهان لأي معركة بلا إيمان ولأجل راتب، أثمن من كل ذلك.
وسأمنح روحي لأجل مبدأ وهدف نبيل، ولمثل ذلك يجب أن يفدي الرجل بروحه، وغير ذلك فليعد.. يعد إلى بيته.. أو يتهرب (للعمل في) السعودية.
واذا سألني أحدكم مرة أخرى: هل تزوجت؟ وكم رصيدك؟، سأحظره.
*من صفحة الكاتب على الفيسبوك