رحم الله الأستاذ "توفيق أحمد مهيوب" أبو التخطيط الحضري في المخا، مدير مكتب الأشغال.. خسرناه في وقت كنا كلنا بحاجة إليه، ولم نكن أصلاً قد عرفنا قدره وقدرته.
سألته يوماً: أريد أتعرف على المخا بعيونك.. كما تعرفها أنت، فطاف بي المدينة يعرفني على تاريخ كل تفصيل فيها.
تاريخ البيوت التجارية التي تنكرت للمدينة ورحلت عنها بعد أن رفعتها المخا، وبقيت لها بيوت مخبأة هنا أو هناك وأراضٍ أيضاً.
دهشت من وكالة الخزف الصيني، من بقايا وجود باشنفر وشولق، ولا أعتقد الناس عادها تعرف شولق، أول بنوك المغتربين والذي لم يكن هناك مغترب إلا وتحدث عنه.
عشرات البيوت التجارية لها ممتلكات أرضية في المخا، وقد أهملتها وغادرت.
حتى عائلة الأستاذ خالد بحاح، لهم أراضٍ في المخا.. الحبشي، العمودي.
الأستاذ أنيس حسن يحيى، ابن المخا الذي ولد وتربى وصار سياسياً عدنياً.
والمخا كانت محطة تجارة إفريقيا، ولهذا اتفق الشيخ سعيد صاحب جبال باب المندب مع الفرنسيين، في مواجهة مشروع الألمان، على محطة خدمة تجارية قاعدتها المخا.
المخا ميناء طبيعي، وهو صورة مختصرة لعدن.. عدن الميناء الطبيعي الوحيد في العالم الذي هندسته تمتد على مسافة 35 كيلومتراً، من التواهي وحتى البريقة مروراً بالمعلا ثم المنصورة والحسوة.. لفة طويلة من الجيوب الجبلية يمكنها أن تكون أكبر ميناء طبيعي في العالم.
والمخا نقطة واحدة من نقاط عدن، بالتشابه لكن يميزه أنه أقل من عدن في خيارات السفن للرسو.. في حدود الساعة يمكن للسفينة أن تبدأ بإنزال حمولتها.
مات "توفيق" ولم يكن حديثنا قد اكتمل، فجعني رحيله، وأكاد أذوق طعم القهر الذي فطر فؤاده.. فهو منذ طرح الحوثي أوساخ إيران فوق وجه المخا وتوفيق يعاني.
عانى مع الحوثي.. ثم اعتقل بعد التحرير بسبب صراعات الإخوان والمؤتمر، فهو كان رئيس فرع المؤتمر في المدينة.
وحين تشكلت المقاومة الوطنية، عانى أيضاً من أشخاص لا يقدرون الناس إلا وفق حاجتهم، ثم التقى بقائد المقاومة الوطنية مرة واحدة كنت معه فيها.. ولم يمهلنا القدر لننفذ ما كنا نطمح إليه وهو دليلنا وأستاذنا.
وجه المخا الأنيق المهذب المحبوب، قال لي قبل رحيله بشهر واحد: المخا مدينة مخططة، لا يصح أن تصبح بهذه العشوائية.
كنا معاً في شارع المخا الرئيس، وكان مستاءً من انتشار العشوائيات على جانبي الطريق.. ويطالب بإزالتها.
اليوم وبعد ثلاث سنوات من رحيله، زرته إلى قبره قرأت عليه الفاتحة، وحدثته عن معركة العشوائيات، وعن معركتنا مع مكتبه ذاته بشأن شوارع وطرقات المدينة التي وضع حجر أساسها الأخ عضو مجلس القيادة قبل خمسة أشهر لكنه لا يزال متعثراً؛ بسبب ذات العشوائيات.
هو يعرف موقفي، كان أحد الزملاء جاء لي بملف يريد وساطتي عند توفيق كي يرخص له بناء صندقة على الشارع، وقلت لتوفيق إني رفضت، وتمنيت أن لا يقبل أي وساطة.. فأخرج لي ملفاً بأسماء من يتوسطون، تجار وعسكريين مشايخ وقيادات. بعضها استطاع التملص منها وبعضها عجز عن ذلك..
الأسبوع الماضي عقدت السلطة المحلية والأجهزة الأمنية والقضائية في المديرية اجتماعاً بهذا الخصوص، وكان الاتفاق:
- إعادة السوق المركزي للعمل.
- إزالة العشوائيات، ابتداءً بالمحلات التجارية وانتهاءً بالصندقات.
وخلال ثلاثة أيام نفذت وحدة مكتب الأشغال رفقة ثلاثة أطقم من الأمن المركزي حملة أزالت بها 107 توسعات وصنادق عشوائية.
وننتظر بدء مهندسي الأشغال إعادة إسقاط مخططات الشوارع لترى شوارع المخا الاسفلت والنور ونحتفل بالطرقات والكهرباء في وقت واحد يمكننا حينها أن نحتفي بميلاد المخا الجديدة.
لكن من باب الأمانة والانتماء للناس في هذه المدينة التي ليس فيها هنجمة مشايخ ولا زعيق أحزاب، ولا حتى إعلام مستقل يتابع قضايا الناس، فإن كل هذا ناقص ما لم تبدأ الخطوة التي كان المفترض أن نبدأ بها وفق التوجيهات ووفق مخرجات الاجتماع، وهي إعادة تأهيل السوق المركزي.
اليوم صدرت التوجيهات من جديد، شكراً لإزالة العشوائيات، ولكن قبلها يجب تيسير المكان البديل للناس، ودعم الأكثر فقراً، فمصادر الرزق هي مقتضى الدولة كلها.
وسيتولى المكتب السياسي، باعتباره أداة الناس وحليفهم، الإشراف على تنفيذ هذه الخطوة.. عبر السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية بالتعاون مع كل الجهات ذات العلاقة.
ومع استمرار حملة التشجير التي رفعت الأشجار رأسها من جديد داخل المخا في منظر يشرح الصدر، بمتابعة مباشرة من العميد طارق صالح.
وبعد إزالة العشوائيات، ستبدأ مرحلة الشوارع، فالمخا إلى اليوم منذ 50 سنة بدون ولا متر واحد اسفلت داخلها، عدا الشارع العام الذي كادت العشوائيات تغطيه.
نريد الاحتفال بالمخا، مدينة للناس أولاً وللنظام والقانون ثانياً.. وللتنمية والتحديث والتعايش ثالثاً..
رحمك الله يا توفيق..
