حسن العديني

حسن العديني

تابعنى على

عبد الملك سعيد.. القائد والرائد

Tuesday 26 March 2019 الساعة 10:40 am

ما تزال الصدمة قاسية عنيفة.. عاصفة ومزلزلة للروح.. وما يزال الجرح نازفاً والألم ممضاً.

أربعون يوماً من الغياب.. أربعون يوماً من الحضور.. وأكثر منها قليلاً من الترقب والدعاء منذ صحوت على رسالة من العزيز محمد سعيد عبده تقول "صاحبك السفير أصيب بنزيف حاد".

رجوت الله أن يكون أي سفير إلا الذي ذهب إليه الظن وقد خالجني الشك فسألته إن كان عبد الملك؟ وفي الأيام والليالي بقيت معه على تواصل حتى الفاجعة. 
إذن مات صاحبي.
أربعون يوماً من الغياب.. أربعون يوماً من الحضور وعبد الملك يستوطن الذاكرة، ذلك أن الكبار يرحلون بأجسادهم وتبقى أرواحهم محلقة ومآثرهم شاهدة على أنهم لم يمروا في الدنيا مروراً عابراً.
عبد الملك واحد من الكبار الذين تركوا بصمة ظاهرة في الحياة.
وقد عاش قليلاً بعدد السنين والحساب وكثيراً بعمق التجربة وثرائها. 
فلقد كانت حياته حافلة بأبلغ واصدق المعاني.. وكان فيه شيء من اسمه. إنه ملك.. ملك بحق في نبله الإنساني ونبوغه الفكري وعبقريته السياسية.

والواضح أن عبد الملك كان لديه نضوج مبكر ونبوغ مبكر.. النضوج ظاهر في شخصيته المتزنة والراسخة، والنبوغ باد من إمكانيته وقدراته الهائلة.

ولقد كتب أحد زملائه في المدرسة الثانوية أنه كان يبهرهم بأحاديثه وأنه يتكلم بالفصحى.. والمعنى أن طالب الثانوية كان يخلق الدهشة لدى سامعيه مع أنه في الواقع لم يكن يتحدث بالفصحى أو يختار الألفاظ المتقعرة ويضبط الحروف على النصب والجر والفتح.. لا.. فعبد الملك ليس من ذلك الطراز المتكلف قليلي المعرفة وكثيري الادعاء بل كان يتحدث بالسليقة والتلقائية، لكن مفرداته كثيرة وقاموسه اللغوي غني، تتدفق منه الكلمات كما لو أنها شلال جارف أو رشاش يصيب الهدف.
ربما من هذا الدفق تولد الانطباع عند زميله الطالب الثانوي أنه يتحدث الفصحى.
كما لم يكن عبد الملك على غرار من يستخدمون المصطلحات الفلسفية الغريبة على السامع والقارئ.. كان بسيطاً وتلقائياً حين يتحدث وحين يكتب يقول ذلك السهل الممتنع الذي لا يملكه سوى صاحب علم وافر وثقافة موسوعية.

وأنا كنت من المبهورين به، المعجبين والمحبين، وقد عشقته بالأذن قبل العين كما في القول المأثور. 
وكنا في القطاع الطلابي في تعز مأخوذين بما تعج به القاهرة من نشاط طلابي زاخر يطرق مسامعنا منه اسمان من اعظم اللوامع المبشرة برعيل مهيب سوف يزيح الطبقة الثقافية التقليدية ويصنع الجديد والمجيد، عيسى محمد سيف وعبد الملك سعيد عبده.. ثم اتيح لي أن أراه وأسمعه. 
كان اليوم 5 سبتمبر 1972 عندما اصطحبني مع آخرين زميل دراسة يسبقني بمستويين إلى منزل في حارة الضبوعة بتعز للمقيل مع طالبين قدما من مصر لقضاء الإجازة الصيفية أحدهما عبد الملك، ودار حديث عن الحركة الطلابية وعن الشأن السياسي واخذنا بشخصية هذا الطالب الفذ وعلمه وإبهاره. 
فيما بعد سيرجع من القاهرة حين أكون انهيت دراستي الثانوية وتنشأ بيننا علاقة عميقة طويلة وممتدة كان فيها الأخ الكبير والمعلم الكبير.

يوم وفاته تواصنا، انا و الزميل الصديق مفيد عبده سيف، لتبادل التعازي، وتذكرنا ذلك اللقاء الأول في الضبوعة، وقال مفيد "كنت دائماً حين أسمعه أتمنى أن أكون مثله"، وكان هذا هاجس كثيرين يتمنون في انفسهم.. ليتني مثله.. ليتني أشبهه.. ليتني أدانيه.

ولا عجب فإن الجلوس في حضرة عبد الملك بمثابة رحلة ممتعة في حقول معرفية خصبة. عصارة الفكر وعمق التحليل ووضوح الرؤية وسلامة التنبؤ بلغة رصينة وفصيحة ومفهومة.

وما من مرة أخطأ التقدير مهما كانت تعقيدات القضايا التي يناقشها وأياً كان مسرحها فهو متابع نشيط وملم وقادر على التحليل والتركيب.

ولقد نقرأ أبحاثاً ودراسات وتحليلات لمتخصصين تسبق اسماءهم القاب علمية كبيرة ثم يتبين أن عبد الملك اصدق منهم نبوءة.

دائماً لا يخيب توقعه وكثيراً ما تخيب توقعات مراكز أبحاث تقوم على دراسة قضاياها خلايا متخصصة في مجالات متعددة شتى.

لا شك أن عوامل عديدة ساهمت في تكوين شخصية هذا الرجل الاستثنائي بعضها يرجع لصفات فيه وبعضها يتصل بالبيئة والظروف.

وحتى في هذا الحال ما كان يمكن الاستفادة من الظرف لولا الاستعداد الطبيعي والملكات الذهنية.

من الناحية الشخصية هناك الذكاء الحاد والفطنة والاستعداد للفهم. وهناك ثانياً ثقة عالية واعتداد بالنفس من غير غرور ولا تكبر.. ثم هناك علو الهمة والمثابرة والجدية.. ومن بعد هناك الطموح والإرادة والتصميم على بلوغ الأهداف.

ولقد بدأ التكوين في جو أسري صحي وحميم وفي منزل يضم كتباً في الأدب والتراث والفقه كما هو شأن البيوت التي ينتمي أفرادها لطبقة الفقهاء حيث والده من هذه الطبقة المنفتحة على العلم.

ويأتي التأثير الثاني من المناخ العربي والدولي العام.. فقد أطل في صباه على الموجة العاتية لحركة التحرر الوطني والمد القومي وأصداء ثورة الجزائر وقيام وفشل الوحدة المصرية السورية وثورة 26 سبتمبر في صنعاء والكفاح المسلح في عدن وصوت جمال عبد الناصر المجلجل. 
وكان الفتى يتابع ويقرأ ويفهم ويتأمل، ثم انخراطه في العمل السياسي المباشر بالنضال في صفوف تنظيم الطليعة العربية الذي شق طريقه فيه إلى مواقع قيادية.

وفي مناخ المنافسة كانت الثقافة سلاحاً ضرورياً لمن يسعى إلى التفوق زاد إليه شغف كبير عنده للمعرفة وقدرة هائلة على الاستيعاب والتحليل والنقد.

بعد ذلك فقد درس التخصص الذي يلائم استعداده وطموحه.

وفي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية أخذ من علم السياسة حاجته وأضاف إليه بقراءة منهجية في تخصصه وفي العلوم الرديفة، فانهمك على دراسة الفلسفة والاقتصاد والاجتماع، وتوسع بصورة خاصة في دراسة الماركسية وتاريخ الفكر الاشتراكي والتجارب الاشتراكية والثوراة الكبيرة، واطلع على الأدب والتاريخ والفكر القومي والتراث العربي والإسلامي وغيره وغيره.

وعندما حصل على البكالوريوس كان يتفوق على اكثر مدرسيه من زاوية الاحاطة بعلوم لا يهتم بها المشتغلون بتخصصاتهم الدقيقة وحدها باستثناء العلامة الكبير الدكتور حامد ربيع. والظن الغالب أن عبد الملك لو اشتغل في البحث العلمي لكان لنا منه صورة حديثة من هذا المعلم العظيم الذي كان له قدوة ومثالا.

ولعله لاحظ أن المناخ الفكري والعلمي في البلاد غير مشجع على الابداع والخلق ورأى أن السلك الدبلوماسي يفتح أمامه طريقاً إلى بيئات ثقافية مناسبة لأن يعطي وينجز.

ومن الناحية الثانية فلقد ظن أنه يستطيع ان يساهم في هذا الميدان لتوطيد أقدام بلاده الخارجة من العزلة على المسرح الدولي.

غير أنه للأسف لم يأخذ حقه كاملاً ولم تستفد بلاده من إمكانياته وقدراته القصوى.

ولقد بلغ في رقيه الوظيفي منصب السفير الذي تولاه مئات من عديمي الموهبة والعلم، بل لقد كان من غرائب الزمان ألا يتاح لعبد الملك أن يرأس الدبلوماسية اليمنية بينما تولاها أطباء مختبرات وأطفال وخريجو ثانوية عامة رصيدهم محفوظات من الشعر. ولقد كان من نتائج اشتغال عالم سياسة تحت رئاسة رجال يفتقدون العلم أن استقرت تحليلاته وتصوراته ونصائحه في أرشيف وزارة الخارجية ورئاسة الجمهورية دون أن يستفيد منها صانع القرار.

واني لأعتقد أن رجلاً بعقله وعلمه وحكمته كان قادراً على ترشيد السياسات وتجنيب البلاد الوقوع في مزالق أدت إلى هذا المآل الذي تعيشه البلاد.. لكن لا بأس فإن الرجل على الصعيد الشخصي قد أخذ شيئاً آخر ثميناً وعزيزاً واحترام الناس.

هذا المثقف الداهية.. هذا الدبلوماسي المحنك.. هذا الإنسان النبيل، القدوة والقدرة غادر دنيانا ولكنه حي في ضمير اليمن وفي تاريخ الدبلوماسية، ساطع ومتألق.

عبد الملك أيها الرائع.. أيها النبيل الحكيم والجليل.. أيها الرجل الفرد، القائد والرائد.
سلام عليك 
سلام إليك..
تحية وفاء أولى في أربعينيتك وما بقي دين نوفيه إليك حين نفتش بإمعان في سيرتك ونقف عند مجدك الباقي والخالد.

* من صفحة الكاتب على (الفيسبوك)