التراث اليمني في خطر.. تجارة غير مشروعة تقتلع ذاكرة البلاد الحضارية
السياسية - منذ 4 ساعات و 7 دقائق
بينما يعيش اليمن إحدى أشد مراحله قسوة في ظل الحرب وتداعياتها المدمرة على الإنسان والاقتصاد، تتعرض ذاكرة البلاد وهويتها التاريخية لعملية نهب وعبث منظم عبر تهريب القطع الأثرية النادرة وبيعها في الأسواق المحلية والمزادات العالمية.وتحوّلت التجارة غير المشروعة بالآثار إلى نشاط متنامٍ تُشارك فيه شبكات محلية ودولية، تستغل ضعف مؤسسات الدولة، وغياب الرقابة الرسمية، وجهل الكثير من المسؤولين والضباط بقيمة هذه القطع، ليجد التراث اليمني نفسه عرضة للتبديد، ولتتسرب ملامح الحضارات القديمة من سبأ وقتبان وحضرموت إلى المتاحف الخاصة وصالات المزادات في أوروبا وأميركا.
الباحث المتخصص في الآثار اليمنية عبدالله محسن كشف في سلسلة منشوراته الأخيرة على صفحته في فيسبوك عن استمرار تهريب مجموعات أثرية ثمينة على أنها مجرد فصوص عقيق ومشغولات يدوية.
وقال إنه تلقى صورًا ورسائل توثق بيع كميات من الخرز الأثري المستخرج من محافظات الجوف وشبوة وأبين، وهي خرز متنوع الألوان والأشكال، يُباع في السوق المحلية عبر سماسرة يتعاملون مع تجار، بينهم تاجر صيني مهتم بهذا النوع من القلائد والخرز.
وأشار محسن إلى أن سهولة التهريب ترجع إلى غياب دليل مصوّر من وزارة الثقافة وهيئة الآثار يساعد رجال الجمارك والأمن على تمييز القطع الأثرية عن التقليدية، وهو ما يسمح بمرور هذه الكنوز عبر المطارات والنقاط الأمنية دون ضبطها.
ومؤخرًا، عرضت مقتنيات أثرية من قلادات ومصوغات ذهبية وخرز للبيع في منطقة المحفد بمحافظة أبين، وهي بحسب الباحث تشبه تمامًا مجموعات محفوظة في متحف بنسلفانيا بالولايات المتحدة، ضمن 140 قطعة أثرية اشتراها المتحف عام 1930 من كويل جونز. هذا التشابه يعكس خطورة ما يحدث، فالمقتنيات اليمنية التي تخرج من البلاد اليوم ليست سوى امتداد لحلقات طويلة من النهب الذي بدأ منذ عقود وتواصل بوتيرة متصاعدة خلال سنوات الحرب الأخيرة.
الأمر لم يعد مقتصرًا على السوق المحلية، بل وصل إلى أعرق دور المزادات العالمية. ففي نوفمبر 2009، عرضت دار مزادات في باريس قطعة فريدة هي وجه من البرونز بعيون لوزية مرصعة بالكالسيت، وطبقة خارجية ملونة، تعود إلى أواخر الألفية الأولى قبل الميلاد.
ومؤخرًا، في ديسمبر 2024، بيعت في مزاد جورني وموش في ألمانيا قطع نادرة بينها: رأس تمثال شاب من سبأ بارتفاع 16 سم، يعود لمجموعة خاصة بلجيكية حصلت عليه عام 2014 من جاليري غيزلباش. وبورتريه لشاب من قتبان مصنوع من المرمر بارتفاع 19 سم، عُرض في نفس المزاد، وكان بحوزة مجموعة سويسرية منذ 2011. هذه المعروضات التي تُعرض كقطع نادرة تحمل قيمة مالية ضخمة، إلا أن قيمتها الحقيقية تكمن في رمزيتها الحضارية والتاريخية المرتبطة بأرض اليمن، وهو ما يضاعف من فداحة خسارتها.
ويقول مختصون وخبراء في الآثار: "المؤسف أن هذه الظاهرة تتغذى على الفراغ المؤسسي وغياب إجراءات الحماية الرسمية. فرغم نداءات الباحثين والمختصين، لم تصدر وزارة الثقافة ولا هيئة الآثار حتى الآن أي أدلة توعوية أو مصورة لتمكين الجهات الأمنية من التعرف على القطع الأثرية، ما يترك الباب مفتوحًا أمام المهربين والسماسرة للاستمرار في أنشطتهم".
ويؤكدون أن غياب الرقابة وتفكك مؤسسات الدولة جعلا التراث اليمني أكثر عرضة للنهب مقارنة بأي وقت مضى، حيث يتعامل المهربون مع الآثار باعتبارها سلعة عادية، في وقت تُباع فيه هذه الكنوز بأضعاف قيمتها في المزادات العالمية. مضيفين: "ما يجري اليوم ليس مجرد تهريب لقطع حجرية أو معدنية، بل هو اقتلاع لذاكرة شعب بأكمله، وطمس لموروث حضاري يمتد لآلاف السنين".