"مركزي عدن" في مهمة إنقاذ مالي بطوق الدين

السياسية - منذ 3 ساعات و 46 دقيقة
عدن، نيوزيمن، خاص:

في سياق أزمة مالية خانقة وتراجع غير مسبوق في قدرة الدولة على الإيفاء بالتزاماتها الأساسية، أقدم البنك المركزي اليمني على خطوة اعتُبرت في الأوساط الاقتصادية جريئة بقدر ما هي محفوفة بالمخاطر، عبر إعلانه تنظيم مزادات واسعة لبيع أدوات الدين العام المحلي طويلة الأجل، عبر إصدار سندات خزينة لأجل ثلاث سنوات، بقيمة أولية تبلغ 10 مليارات ريال يمني قابلة للزيادة.

هذا التوجه يعكس محاولة حثيثة لسحب فائض السيولة النقدية من السوق المحلي وإعادة توظيفها في تمويل العجز المالي المتفاقم، الذي أخذ يهدد بشكل مباشر قدرة الخزينة العامة على دفع الرواتب والوفاء بالالتزامات الحيوية.

ولأن القرار جاء في لحظة حساسة تزامنت مع تعثر الحكومة عن صرف رواتب موظفي القطاع العام لعدة أشهر متتالية، فقد أثار موجة من الجدل داخل الأوساط الاقتصادية والسياسية، إذ اعتبره البعض خيارًا اضطراريًا لا بد منه لتفادي الانهيار النقدي، فيما رآه آخرون مغامرة محفوفة بالشكوك حول قدرة الدولة على تحمل أعباء خدمة الدين المرتفعة التي ستترتب عليه. وبين هذه الرؤى المتباينة، تتشكل حالة من الترقب الحذر بشأن ما إذا كانت هذه المزادات قادرة بالفعل على تحقيق أهدافها العاجلة دون أن تخلق أزمات أكثر تعقيدًا على المدى المتوسط والطويل.

عجز هائل في الإيرادات

الخبير الاقتصادي فارس النجار، المستشار الاقتصادي في مكتب رئاسة الجمهورية، كشف في منشور على صفحته بموقع فيسبوك عن خلفيات القرار، موضحًا أن البنك يواجه عجزًا هائلًا في الإيرادات بسبب توقف صادرات النفط وتراجع التحصيل الضريبي والجمركي، ما جعل الدولة عاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها الأساسية.

وفقًا للنجار، ينقسم الطرح الجديد إلى: أذون الخزانة (قصيرة الأجل): تستحق خلال عام واحد أو أقل، بعائد سنوي يناهز 18%. والسندات الحكومية (طويلة الأجل): تصل مدتها إلى ثلاث سنوات فأكثر، بعائد سنوي يصل إلى 20%. وهذه الخطوة تمثل تحوّلًا نحو أدوات السوق لإدارة السيولة بدل الاعتماد على الطباعة النقدية أو التمويل التضخمي، في محاولة لامتصاص فائض السيولة المتضخم في السوق وتحويله إلى التزامات حكومية منظمة.

وتأتي هذه السياسة كرد مباشر على ثلاثة تحديات رئيسية متمثلة في عجز الإيرادات بسبب توقف صادرات النفط شبه الكامل، وضعف قدرة الدولة على التحصيل، وكذا ضغوط الرواتب والالتزامات أبرزها سداد رواتب موظفي القطاع العام المتأخرة. إضافة إلى مكافحة التضخم من خلال سحب الأموال من أيدي المضاربين في سوق العملة والسلع وإعادة توجيهها إلى أدوات استثمار آمنة داخل النظام المالي.

تحذيرات من "الطباعة" ورهان محفوف بالمخاطر

ويُجمع خبراء الاقتصاد على أن خيار اللجوء إلى طباعة العملة دون غطاء يمثل أحد أخطر السيناريوهات التي يمكن أن تواجه أي اقتصاد هش، وهو ما أكّد عليه المستشار الاقتصادي فارس النجار حين وصف هذا البديل بالكارثي. فالطباعة غير المنضبطة للنقود لا تُنتج ثروة حقيقية، بل تضيف كتلة نقدية متضخمة إلى السوق دون أن يقابلها إنتاج فعلي أو موارد حقيقية، الأمر الذي يؤدي إلى تآكل سريع في قيمة العملة المحلية، وانفجار في الأسعار، وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين. هذه الحلقة التضخمية المفرغة تجعل أي إجراءات لاحقة للسيطرة على الأسعار شبه مستحيلة، وهو ما دفع البنك المركزي إلى البحث عن حلول بديلة مهما كانت مؤقتة أو محفوفة بالمخاطر.

غير أن خيار إصدار أدوات الدين المحلي بديلًا عن الطباعة النقدية لا يخلو من تحديات معقدة. فبالرغم من أن الإعلان عن هذه المزادات يرسل إشارة طمأنة أولية للأسواق المحلية بأن السلطات النقدية ما زالت تبحث عن مسارات أكثر مسؤولية لإدارة الأزمة، إلا أن هذا المسار يطرح بدوره أسئلة جوهرية: هل ستتمكن الحكومة، وسط اقتصاد شبه منهار، من الوفاء بسداد فوائد وأصول هذه الديون عند استحقاقها؟ وهل يمكن لهذه السياسة أن تصمد إذا استمر توقف صادرات النفط وتواصل تراجع التدفقات المالية الخارجية؟

في الجانب الإيجابي، قد تعزز هذه الخطوة شيئًا من الثقة المؤقتة لدى البنوك والتجار والمستثمرين، إذ تقدم لهم بديلاً استثماريًا أكثر أمانًا من المضاربة في العملات أو السلع. لكن هذه المكاسب تبقى هشة إذا لم تقترن بزيادة حقيقية في الإيرادات العامة. والأسوأ من ذلك، أن أسعار الفائدة المرتفعة المفروضة على هذه الأدوات (18–20%) قد تؤدي إلى ما يُعرف بظاهرة مزاحمة الاستثمار الخاص، حيث يُفضّل المستثمرون الاكتتاب في أدوات الدين الحكومي باعتبارها مضمونة وعالية العائد، على حساب ضخ أموالهم في الأنشطة الإنتاجية والصناعية والتجارية التي يحتاجها الاقتصاد لإعادة النهوض.

إضافة إلى ذلك، فإن تراكم أعباء خدمة الدين لى الخزينة العامة، سواء عبر سداد الفوائد أو أصل الدين، قد يشكل قيدًا خانقًا على السياسة المالية للدولة في المستقبل، ويزيد من هشاشتها أمام أي صدمات إضافية. لذلك، فإن خيار الاعتماد على أدوات الدين المحلي يبقى أقرب إلى رهان محفوف بالمخاطر، إذ يحاول معالجة الأعراض الظاهرة للأزمة المالية دون أن يقدم حلولًا جذرية لمسبباتها الهيكلية.

إنقاذ مؤقت لا أكثر

يشدد الخبير الاقتصادي فارس النجار على أن التوجه نحو إصدار أدوات الدين المحلي، سواء عبر أذون الخزانة أو السندات الحكومية، لا يمكن النظر إليه كحل جذري للأزمة المالية التي تعصف بالبلاد، وإنما هو مسار مرحلي أشبه بمحاولة إسعاف عاجلة لتخفيف الضغط عن الخزينة العامة ومنع الانهيار الفوري. فالاستقرار المالي المستدام، كما يشير النجار، يظل مرهونًا بعودة شرايين الاقتصاد الأساسية المتمثلة في صادرات النفط والغاز، والتي تشكل العمود الفقري للإيرادات العامة، أو عبر تدخل خارجي مباشر من خلال منح ومساعدات دولية تساهم في سد فجوة العجز المزمنة.

إلى جانب ذلك، فإن فعالية هذه السياسة النقدية الاستثنائية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمدى قدرة الحكومة على المضي في إصلاحات مالية وهيكلية عميقة، تشمل توسيع القاعدة الضريبية، تحسين كفاءة التحصيل الجمركي، والحد من الإنفاق غير الضروري الذي يثقل كاهل الموازنة. فبدون هذه الإصلاحات الجذرية، ستظل أدوات الدين مجرد حلقة في دوامة تدوير الأزمة المالية دون كسرها.

ويرى بعض الاقتصاديين أن هذه الخطوة قد تفتح الباب أمام تأسيس سوق محلية للدين العام، وتشكيل نواة أولية لما يُعرف بـ"منحنى العائد"، الذي يُعد أداة مهمة لتسعير المخاطر وتحديد مستويات الفائدة المستقبلية. غير أن هذا الطرح يظل أقرب إلى الطموح منه إلى الواقع، في ظل غياب مقومات أساسية مثل وجود سوق ثانوية نشطة لتداول السندات، أو قاعدة واسعة ومتنوعة من المستثمرين القادرين على المشاركة بفعالية في هذا السوق.

تأجيل الانفجار الاقتصادي

يتفق العديد من الخبراء الاقتصاديين على أن التوجه نحو إصدار أدوات الدين المحلي ليس أكثر من محاولة لشراء الوقت وتأجيل لحظة الانفجار الاقتصادي الحتمي إذا لم تترافق هذه الخطوة مع إصلاحات بنيوية أوسع. فالمزاد الاستثنائي للأذون والسندات قد يوفّر متنفسًا مؤقتًا للدولة عبر امتصاص جزء من السيولة المتدفقة في السوق وتغطية بعض الالتزامات العاجلة، إلا أنه لا يعالج المعضلة الأساسية المتمثلة في غياب مصادر مستدامة للإيرادات وتراجع قدرة الاقتصاد على توليد موارد حقيقية.

إن نجاح هذه السياسة النقدية المشروطة يتوقف على توفر حزمة متكاملة من الإجراءات المالية والاقتصادية، تشمل إعادة هيكلة النظام الضريبي، تحسين تحصيل الإيرادات الجمركية، وضبط الإنفاق العام الذي يستنزف موارد الدولة دون عائد ملموس. غير أن هذه الإصلاحات لا يمكن أن تحقق نتائج فعلية دون وجود استقرار سياسي وأمني يخلق بيئة مواتية لتنشيط الاستثمار المحلي وجذب التمويل الخارجي. وهو ما يجعل تجربة الدين المحلي تقف أمام معادلة شديدة التعقيد تتجاوز قدرات البنك المركزي وحده، لتصبح مسؤولية منظومة الدولة بأكملها.

وبين مطرقة الالتزامات المالية الثقيلة – من رواتب متأخرة وخدمات أساسية متعثرة – وسندان الضغوط التضخمية والانهيار النقدي المحتمل، يجد البنك المركزي اليمني نفسه في موقع حرج، حيث لا يملك خيارات مريحة، بل مجرد أدوات لتخفيف الصدمة وتأجيل الأسوأ. فالقرار بطرح مزادات استثنائية للأذون والسندات هو بمثابة محاولة لالتقاط الأنفاس الاقتصادية ومنع الانهيار الفوري، لكنه لا يضمن مستقبلًا آمنًا.

إن مصير هذه الخطوة يظل رهينًا بقدرة الدولة على تعظيم إيراداتها السيادية، سواء عبر استئناف صادرات النفط والغاز أو عبر إيجاد بدائل تمويلية مبتكرة، إلى جانب الحصول على دعم خارجي فعّال يعيد التوازن إلى مالية عامة أنهكها العجز. دون ذلك، سيبقى الدين المحلي مجرد أداة لتأجيل الانفجار، لا أكثر، وقد يتحول مع مرور الوقت إلى عبء إضافي يسرّع الانهيار بدل أن يجنّبه.