الإصلاح الإخواني وسيطرة الفشل.. مأساة تعز بعد التحرير من الحوثي
السياسية - منذ ساعة و 47 دقيقة
تعيش محافظة تعز فوضى أمنية وانقسامًا مجتمعيًا غير مسبوق، تكشّف معه الوجه الحقيقي لحزب الإصلاح الذي استأثر بالمحافظة منذ دحر ميليشيا الحوثي. فبدلاً من إدارة المرحلة بعقلية الدولة، تعامل الحزب مع تعز كغنيمة حرب، مستوليًا على مواردها وإيراداتها، ومكرسًا هيمنة ميليشيوية أحبطت كل الجهود الوطنية لاستكمال التحرير.
وباتت المحافظة، وفق أصوات شعبية متزايدة، عنوانًا للفشل والخراب بعد أن أخفق الحزب في إدارة المعركة وتآمر على شركائه، بينما تمددت شبكات الفساد والرعاية للعصابات المسلحة والخلايا الإرهابية.
رسالة حاسمة
جاءت رسالة المحافظ الأسبق أمين أحمد محمود، قبل أيام لتشكل أقوى ضربة سياسية يواجهها حزب الإصلاح منذ سنوات، ورسالة أشبه بجرس إنذار يدوّي في وجه قياداته، كاشفة حجم الغضب الشعبي والنخبوي من سياسات الحزب التي حولت تعز إلى ساحة للفوضى والنهب. لم تكن الرسالة مجرد بيان سياسي عابر، بل وثيقة اتهام واضحة ومباشرة، تضع الحزب أمام استحقاق المراجعة الجذرية أو مواجهة عزلة داخلية ودولية.
وفي نص رسالته الحاد، وجّه محمود خطابه إلى قيادة الحزب قائلًا: "لقد آن الأوان لأن تواجهوا الحقيقة بصدق، وتجروا مراجعة شاملة لممارساتكم التي تسببت في الفشل والانهيار. إن استمراركم في العمل كميليشيا مسلّحة بدلاً من حزب سياسي، وسيطرتكم على مؤسسات الجيش والأمن خلافًا للدستور، هو السبب الرئيس وراء إفساد وإفشال كل الجهود الوطنية لدحر مشروع الإمامة واستعادة الجمهورية".
وأضاف: "لقد فشلتم في إدارة المعركة، وتآمرتم على شركائكم، وأحبطتم كل المساعي لتوحيد الصف الجمهوري. واليوم أنتم أمام لحظة فارقة: إما أن تعودوا للعمل كحزب سياسي ملتزم بالدستور، أو أن تواجهوا مصير التصنيف كجماعة إرهابية، وهو ما بدأ المجتمع الدولي فعلًا ينظر فيه مع تزايد توثيق جرائمكم وانتهاكاتكم."
ولم يكتفِ محمود بمجرد توجيه النقد، بل قدّم تحذيرًا صريحًا يتجاوز الاعتبارات المحلية، مؤكدًا أن المجتمع الدولي بدأ بالفعل برصد الانتهاكات التي ينسبها إلى الحزب، وأن صبر الداخل والخارج يوشك على النفاد. وأوضح أن تعز، التي تحررت من ميليشيا الحوثي بدماء رجالها، لن تقبل أن تُستبدل ميليشيا دينية بميليشيا حزبية، وأن استمرار الإصلاح في إدارة المحافظة بعقلية السلاح والاستحواذ يهدد بانفجار شعبي واسع ويفتح الباب أمام تدخلات خارجية.
وشدد المحافظ الأسبق على أن تحذيره ليس نصيحة عاطفية، بل دعوة مسؤولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن تتحول تعز إلى نموذج جديد للفشل، داعيًا قيادة الإصلاح إلى وقفة تاريخية تعيد للحزب صفته السياسية وتفك ارتباطه بالعسكرة والميليشياوية. فإما أن يختار الحزب طريق الدولة والدستور، أو أن يسلك درب الجماعات المصنّفة إرهابية، بما يحمله ذلك من عواقب وعزلة دولية وإقليمية.
بهذه النبرة الحاسمة، بدا خطاب أمين محمود أشبه ببيان اتهام ورسالة إنذار في آن واحد، موجّهة إلى قيادة إصلاحية لا تزال، بحسب وصفه، تتعامل مع المحافظة كغنيمة حرب، في وقت يتصاعد فيه الغضب الشعبي المطالب بإنهاء هيمنة الحزب وإعادة مؤسسات الدولة إلى مسارها الطبيعي.
فوضى مرصودة
لم تعد حالة الانفلات الأمني في مدينة تعز مجرّد حوادث متفرقة، بل تحوّلت إلى مشهد متكامل من الفوضى والتغوّل المسلّح، يرسم صورة مدينة مختطفة خارج سلطة الدولة. تقارير رسمية متواترة تؤكد أن مؤسسات الدولة نفسها أصبحت هدفًا لسطوة العصابات والمليشيات الحزبية، في ظل غياب شبه كامل لهيبة القانون وتواطؤ بعض القوى النافذة.
ففي مذكرة رسمية صادرة عن محافظ تعز نبيل شمسان بتاريخ 28 سبتمبر، كُشف النقاب عن أرقام صادمة توثق حجم الانتهاكات، أبرزها اقتحام 25 مرفقًا حكوميًا وتحويل بعضها إلى مساكن خاصة أو مشاريع استثمارية لصالح شخصيات حزبية متنفذة، في حين استُحدثت أبنية غير قانونية على أراضٍ عامة وخاصة، الأمر الذي وصفه المحافظ بأنه تهديد مباشر للنظام العمراني والنسيج الاجتماعي، وضرب صارخ لهيبة الدولة ومؤسساتها.
وشدّد شمسان على ضرورة اتخاذ إجراءات قانونية عاجلة وصارمة لإزالة هذه التعديات واستعادة كل المباني الحكومية من قبضة المسلحين، محذرًا من أن أي تباطؤ في فرض القانون سيُكرّس واقع “الدويلة داخل الدولة”، ويحوّل المدينة إلى بؤرة انفلات دائمة.
لكن أخطر ما يثير قلق الشارع التعزي ليس فقط نهب الممتلكات العامة، بل تمييع القضايا الجنائية الكبرى التي تمسّ الأمن المجتمعي، وفي مقدمتها جريمة اغتيال مديرة صندوق النظافة افتهان المشهري، الجريمة التي هزّت الرأي العام لبشاعتها وارتباطها بشبكات مصالح ونفوذ.
فعلى الرغم من إعلان أسرة الضحية تشييع جثمانها الثلاثاء 30 سبتمبر، تكشفت تحركات حثيثة من قيادات مرتبطة بحزب الإصلاح لإغلاق الملف وإطلاق سراح متهمين بارزين، مستغلة مقتل المنفذ الرئيسي وتراجع الضغوط الشعبية مع مرور الوقت.
ووفقًا لمصادر أمنية موثوقة، جرى بالفعل إطلاق القيادي في فصائل الحزب عرفات الصوفي بعد توقيعه التزامًا خطيًا بعدم تكرار الجرائم، فيما تستعد إدارة أمن تعز للإفراج عن آخرين، بينهم بكر صادق سرحان المدان حكمًا بالإعدام، مع وجود مساعٍ موازية لإطلاق سراح محمد سعيد شقيق القيادي المعروف حمود المخلافي وقائد كتيبة في اللواء 170 دفاع جوي، وهو المتهم الرئيس بالتحريض على الجريمة.
وتشير شهادات ميدانية إلى أن منفّذ الاغتيال جرى تصفية وقتله عمدًا بهدف طمس الأدلة ومنع تسرب المعلومات التي قد تفضح الجهات الحزبية التي وقفت وراء تصفية المشهري. هذه التطورات، بحسب مراقبين، تمثل اختبارًا صارخًا لقدرة السلطات المحلية على فرض العدالة، وتكشف في الوقت نفسه عن تغلغل نفوذ المليشيات الحزبية داخل الأجهزة الأمنية والقضائية، الأمر الذي يهدد ليس فقط مستقبل القضية، بل ما تبقى من ثقة المواطنين في إمكانية استعادة الدولة لدورها كحَكم وحامٍ للقانون.
بهذا المشهد القاتم، تبدو تعز أمام معركة مزدوجة: معركة ضد الفوضى المسلحة التي تسطو على المؤسسات، ومعركة أخرى ضد الفساد السياسي الذي يفرمل العدالة ويحوّل القتلة إلى ضيوف شرف في صفقات النفوذ والمساومات.
معركة وعي.. لا رصاص
من جانبه لفت السياسي نايف القانص إلى أن ما يجري ليس مجرد صراع مسلح أو تنافس على النفوذ، بل هو حرب على العقول قبل أن تكون مواجهة بالرصاص. فالمعركة الحقيقية، كما يقول، هي معركة وعي تُخاض ضد فكرٍ ظلامي يسعى إلى تعطيل قدرات الإنسان وتحويله من عقلٍ باحثٍ ومنتج إلى أداة طيّعة للتلقين والتدمير.
القانص يؤكد أن جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات الدينية المتطرفة لا تكتفي بالسيطرة على الأرض، بل تتعمد تخريب البنية العقلية للشباب، لتصنع منهم أدوات منفّذة بلا وعي، مستهلكة وغير منتجة، تُقاد بالشعارات الدينية والتحريض الطائفي. يضيف: "إنهم يحوّلون العقل، الذي خُلق باحثًا عن المعرفة، إلى عقلٍ مبرمج لا يعرف سوى السمع والطاعة، فيصبح صاحبه مُسيَّرًا لا مُخيَّرًا، وأداة للقتل والدمار بدلاً من البناء والإبداع."
ويضرب القانص مثالًا صادمًا على ذلك بقضية اغتيال افتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة في تعز، التي قُتلت برصاص شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. يقول: "انظروا إلى ملامح ذلك الفتى، محمد صادق: هل تبدو ملامح إجرام على وجهه؟ لم يولد قاتلًا، لكنه تحوّل إلى أداة رخيصة بعد أن تمّ غسل دماغه بخطاب الكراهية والتكفير. اعترف ببراءة عن المحرّضين الذين دفعوه، لكنه لم يكن سوى دمية تم التخلص منها لاحقًا، بعد أن أتم مهمته القذرة."
ويحذّر القانص من أن الإرهاب الأكبر لا ينتهي بإعدام الجناة أو ملاحقة المنفذين، لأن أصل المشكلة يكمن في الفكر المتطرف الذي ما زال يغرر بآلاف الشباب، محيلًا إياهم من طلاب علم وبناة أوطان إلى قنابل بشرية وأدوات قتل، بينما كان مكانهم الطبيعي في الجامعات وميادين الإبداع، ينهلون من العلم ويشيعون قيم الحب والتسامح.
ويرى القانص أن الخروج من هذا النفق المظلم يبدأ من مشروع وطني لبناء دولة مدنية ديمقراطية، دولة تحكمها القوانين والمؤسسات، وتستند إلى فصل الدين عن السياسة، بحيث يبقى الإيمان شأنًا فرديًا، بينما تُدار شؤون الوطن بعقلانية ونظام. ويشدد على أن: "هذا وحده هو الطريق لإنقاذ اليمن من الفكر الظلامي الذي يتاجر بالدين، ويحوّل الأوطان إلى ساحات خراب. أما من يواصلون تسييس الدين، فهم لا يبيعون للناس إلا وهمًا بجنة خيالية، بينما يدفعونهم في الواقع إلى جحيمٍ دائم."
تعز تبحث عن دولة
وسط رسائل التحذير التي يوجهها سياسيون وقيادات سابقة، وتحت وطأة الفوضى الأمنية وجرائم الاغتيال، تتشكل في أوساط الشارع التعزي قناعة راسخة بأن الوقت قد حان لإنهاء هيمنة حزب الإصلاح على المدينة، واستعادة الدولة بمؤسساتها الشرعية. فتعز التي عانت من حرب دامية ضد مشروع الإمامة الحوثية وقدّمت آلاف الشهداء دفاعًا عن الجمهورية، تجد نفسها اليوم أمام واقعٍ لا يقل قسوة: واقعٌ تحوّلت فيه السلطة المحلية إلى غنيمة حزبية وملاذ لميليشيات تتقاسم النفوذ والثروات، بدل أن تكون نواة لدولة النظام والقانون.
المواطنون في تعز، دفعوا الثمن الأغلى في مواجهة الحوثيين، يرفضون اليوم أن يُستبدل استبداد بآخر. يرفعون اليوم أصواتهم في المظاهرات والبيانات الشعبية، مؤكدين أن المعركة لم تنتهِ بخروج الحوثيين من مركز المدينة، بل بدأت معركة أشد تعقيدًا لاستعادة مؤسسات الدولة من قبضة حزبٍ يمارس سلوكيات الميليشيات، ويوظّف الجيش والأمن لحماية مصالحه الخاصة.
وتتردّد في الأحياء والأسواق ومجالس القرى دعواتٌ متزايدة لتشكيل جبهة مجتمعية واسعة، تضم جميع القوى المدنية والمستقلين، هدفها الضغط لإنهاء حالة "اللا دولة" التي تغذي الفساد والانفلات الأمني. فتعز، كما يقول ناشطوها، لن تنهض بمجرد عودة الخدمات أو ضخ بعض الإيرادات، بل تحتاج إلى تحول سياسي حقيقي يعيد الاعتبار للمؤسسات ويضع حداً لسلطة السلاح والمال الحزبي.
ويحذر مواطنون وحقوقيون من أن استمرار الوضع الراهن يمثل تهديدًا مباشرًا لفكرة الدولة اليمنية نفسها، إذ يكرّس سابقة خطيرة قوامها أن يتحول حزب سياسي إلى سلطة فوق القانون. لذلك، تتصاعد المطالب بأن تتدخل الحكومة الشرعية والقوى الإقليمية الداعمة لإعادة ضبط بوصلة التحرير نحو تأسيس دولة مدنية حديثة، لا مجرد إزاحة الحوثيين لصالح هيمنة طرف آخر.