اليمن يودّع علي عنبة.. أربعون عاماً من الفن والوجع

السياسية - Saturday 11 October 2025 الساعة 10:07 pm
القاهرة، نيوزيمن، خاص:

في لحظةٍ مباغتة، خيّم الحزن على الأوساط الفنية اليمنية والعربية برحيل الفنان الشعبي علي عنبة، الذي توفي في العاصمة المصرية القاهرة إثر نوبة سكر حادة، لتطوى صفحة أربعة عقود من العطاء الفني الصادق، ويغيب صوتٌ ظلّ رمزًا للفرح والألم في آنٍ واحد.

رحيل عنبة لم يكن حدثًا عابرًا في سجل الفن اليمني، بل لحظة فاجعة تختصر مأساة جيلٍ كامل من الفنانين الذين واجهوا الحرب، والحصار، والإهمال، بصوتٍ ولحنٍ وأملٍ لا ينكسر.

وُلد علي عنبة عام 1979 في مديرية خولان الطيال بمحافظة صنعاء، ونشأ في أسرة بسيطة تعشق الغناء الشعبي. حمل العود لأول مرة وهو في السادسة من عمره، ومنذ ذلك الحين، لم يفارقه صوته ولا عشقه للفن. وفي تسعينيات القرن الماضي، بدأ مشواره الفني من أحياء صنعاء القديمة، بصوته الفريد ولهجته الخالصة التي جعلته محبوبًا في الريف والمدينة على السواء.

أغانيه — مثل باب المحبة، يا هاجري، ليلة خميس، طاب السمر، عزيز النفس، والله يا بنت جارتنا — أصبحت جزءًا من ذاكرة اليمنيين الجماعية، تُغنى في الأفراح وتُستعاد في لحظات الحنين.

لم يكن عنبة مجرّد مطربٍ شعبي، بل كان صوتًا يوازي نبض الناس، يغني لهم لا عليهم، ويجد في الفن وسيلة لمقاومة الألم اليومي. حين ضاقت الأحوال، ظلّ يغني للناس رغم جراحه الخاصة، فقد فقد ابنه البكر “أصيل” في حادث طبي مؤلم، ومع ذلك قال ذات مرة: "الفن أمانة.. والناس تستاهل نفرّحها حتى لو إحنا حزانين". كلماته تلك تلخّص فلسفته الإنسانية والفنية التي جعلته أقرب إلى قلوب اليمنيين من أي نجم آخر.

في السنوات الأخيرة، واجه علي عنبة، كغيره من الفنانين، واقعًا خانقًا بعد منع ميليشيا الحوثي إقامة الحفلات والسهرات في صنعاء ومناطق واسعة من البلاد. تلك القيود لم تسلبه فقط مصدر رزقه، بل جرّدته من جمهوره، لتبدأ معاناته المعيشية والنفسية، وسط تدهور صحي متزايد وضغوط قضائية أنهكته. وقرر الرحيل إلى القاهرة في سبتمبر 2025، حاملاً معه حلم استكمال مشاريعه الغنائية الجديدة، غير أن القدر لم يمهله طويلاً، فاختطفه الموت في العاشر من أكتوبر الجاري.

>> وفاة الفنان علي عنبة تُعيد التذكير بإرهاب الحوثي ضد الفن

رحل علي عنبة، وترك خلفه إرثًا فنيًا خالدًا وصدى لا ينطفئ. وصفه زملاؤه بأنه “الصوت الأطول في اليمن”، إذ كان يمتلك مدى صوتيًا نادرًا ودفئًا يلامس الوجدان. 

نعاه الفنانون بكلمات مؤثرة، فقال الفنان حسين محب: "غادرنا فجأة دون وداع، وكان مدرسة تعلم منها الفن والأصالة". وعلى مواقع التواصل، تحوّل اسمه إلى سيرة حنين، حيث كتب أحدهم: "مات علي عنبة وترك حسرة في قلب كل يمني.. صوته كان يداوي جروحنا ويفرحنا في أصعب الأوقات".

برحيل علي عنبة، يفقد اليمن أحد أنقى رموزه الفنية الشعبية التي ظلّت وفية للفن والناس رغم القهر والخذلان. لقد كان صوته جسرًا بين الماضي والوجدان الشعبي، وبين التراث والإحساس الإنساني العميق. ولعلّ الحزن الذي عمّ اليمنيين عقب وفاته، لم يكن على شخصه فقط، بل على ما يمثّله من صدقٍ نادر في زمنٍ اختلط فيه الفن بالوجع والاغتراب.

اليوم، يودّع اليمنيون فنانهم كما يودّعون قطعة من ذاكرتهم. رحل علي عنبة جسدًا، لكن أغانيه ستظل تعيش في الأعراس والمقاهي وذاكرة الإذاعات، شاهدةً على زمنٍ كان فيه الفن ملاذًا للبسمة، والصوت مرآةً للناس. وداعًا يا صوت اليمن الأصيل، يا من غنيت للفرح رغم الحزن، وللناس رغم القهر، رحمك الله بقدر ما أفرحت قلوبنا سنين طويلة.