أمين محمود يحارب لاستعادة "السيادة" في تعز من براثن الحوثيين والإخوان

متفرقات - Sunday 13 May 2018 الساعة 04:37 pm
نيوزيمن، صالح البيضاني:

الأكاديمي ورجل الأعمال لم تكد تمر ساعات على توليه منصبه، حتى تحول إلى هدف مشروع لوسائل الإعلام التابعة للجماعات المتشددة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين.

محافظ تعز الذي يفكك ألغام الحرب فيها ويحفر وجهه على جدار قلعتها يكثر الحديث عن السيادة في اليمن في هذه الأيام، في الوقت الذي يفرّط فيه كثيرون بمفهوم السيادة ذاته حين يمنحون ولاءاتهم لأبعاد دينية تفرضها الأحزاب الإسلامية التي تعبر فوق الهوية الوطنية، ولا تحترم السيادة ولا المواطنة.

ووسط هذا المشهد الصاخب، وعلى أنقاض مدينة عريقة من مدن المدن، دمرتها الحرب وتوزعت أحياؤها المحررة بين نفوذ ميليشيات مسلحة من كل شكل ولون، وفي الوقت الذي ما يزال الحوثيون يقبعون على مشارفها كذئب جائع يتحين فرصته للانقضاض عليها، يتم تعيين رجل الأعمال والخبير الاقتصادي الدكتور أمين أحمد محمود محافظا لتعز اليمنية، في عملية وصفت بأنها أشبه ما تكون بمهمة الفدائي الذي يحاول انتشال مدينته من براثن الفوضى التي ضربت أطنابها في كل أرجاء عاصمة اليمن الثقافية ومركز الثقل السياسي والمدني في البلاد.

ولد محمود في العام 1958 في قرية جباء بمديرية المسراخ القابعة على سفح جبل “صبر” المطل على مدينة تعز.

تعز التي تضج بالحراك الثقافي والسياسي كانت بيئة تشجع على العلم وتحفز على السلوك المدني، وفيها نشأ الطفل المتطلع للمستقبل وواصل تعليمه العالي وصولا إلى حصوله على درجة الدكتوراه في الإدارة والاقتصاد الهندسي، إلى جانب إتقانه ثلاث لغات عالمية هي الإنكليزية، الفرنسية والروسية.

دور اجتماعي منقذ

يشير التاريخ المعاصر لتعز إلى لعب أسرة محمود دورا مهما في تاريخ المدينة، ما يعطي انطباعا عن خلفيات الكاريزما الاجتماعية التي تمكّن الرجل خلالها من تجاوز الكثير من العقبات واقتحام بعض المناطق شديدة الوعورة بعد تقلده منصب المحافظ في محافظة غير محررة بالكامل، تعج بالمتناقضات والصراعات وتضم كافة أنواع الطيف السياسي والفكري في اليمن.

أهم القرارات التي تعكس عزيمة وشجاعة محافظ تعز توجيهه كافة وحدات الجيش والمقاومة الشعبية التي شاركت في تحرير تعز بإخلاء مؤسسات ومقرات السلطة المحلية والمجتمع المدني، وهو الأمر الذي ماطلت فيه كتائب وتشكيلات أخرى مقربة من جماعة الإخوان ورفضت تسليم المقرات.

كان جد أمين محمود أحد أبرز شيوخ منطقة “صبر” وأصبح بعد الثورة ضد النظام الإمامي في العام 1962 أول حاكم للمنطقة، قبل أن يعين مستشارا لمحافظة تعز في العام 1968، تقديرا لدوره النضالي ضد النظام الإمامي في الشمال والاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، حيث تم سجنه لما يناهز ثمانية أعوام من قبل الإمام أحمد يحيى حميد الدين، قبل أن يتمكن من الهرب.

أما والد محمود، فقد قتل في ما عرف بأحداث “الحجرية” بتعز في العام 1978، في ملمح مهم عن طبيعة الدور السياسي والاجتماعي الذي لعبته هذه الأسرة في التاريخ المعاصر لمحافظة تعز على وجه الخصوص.

وعلى الصعيد الشخصي، تحفل حياة محمود بالعديد من المحطات التي مرت بها مسيرته المهنية بعد إكماله مشوار التعليم، حيث عمل مديرا عاما للصيانة والترميم بوزارة الأشغال العامة، ثم مدرسا في كلية الهندسة بجامعة صنعاء، كما تولى أول منصب ذا طابع تنموي، عندما تم تعيينه رئيسا للهيئة العامة لكهرباء ومياه الريف، وهي آخر وظيفة حكومية عمل فيها قبل تفرغه في العام 2001 لتأسيس مشروعه الخاص من خلال إنشاء شركة تجارة ومقاولات عامة في اليمن، تحولت بعد ذلك إلى شركة دولية بعد انتقاله إلى “مونتريال” في كندا وتأسيسه لشركة إنشاءات، إلى جانب عمله كمستشار لعدد من المؤسسات الاقتصادية.

في الوقت الذي كانت الأزمات تلوح في سماء اليمن، غادر محمود للعيش خارج اليمن مع تصاعد الاضطرابات بدءا من انطلاق أولى احتجاجات الحراك الجنوبي، ووصولا إلى تعقيدات المشهد السياسي التي بلغت ذروتها في العام 2011 مع اندلاع المظاهرات المطالبة برحيل الرئيس السابق علي عبدالله صالح.

كبرت سريعا كرة الثلج اليمنية، حين اجتاح الحوثيون العاصمة اليمنية صنعاء، مستفيدين من حالة الفراغ السياسي التي خلفها الصراع المحتدم بين مراكز القوى التقليدية.

تعز المنكوبة

ومع تسارع الأحداث، بدا أن لا منطقة في اليمن ستكون في منأى عن الحرب التي أخذت منحى أكثر احتداما، بعد انطلاق عمليات عاصفة الحزم التي جاءت ردا على اقتحام الحوثيين لمدينة عدن بعد سيطرتهم على تعز في وقت سابق.

وفي دوامة الصراع التي شهدتها اليمن في تلك الفترة، تعرضت مدينة تعز لسلسلة متتالية من الزلازل السياسية والحرب.

وقد ساهم موقع المحافظة الهام جيوسياسيا في تحويلها إلى إحدى أبرز نقاط الاشتباك.

فقد اعتقد كل الأطراف أن من يسيطر عليها يكون قد ظفر بثاني أكبر محافظة يمنية من حيث الكثافة السكانية، وواحدة من إحدى المحافظات ذات التأثير السياسي والثقافي والاجتماعي في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر.

شخصية محمود تولد صدمة متكررة للجماعات المسلحة، التي لم تتقبل فكرة تعيين محافظ ليبرالي مدني يمكن أن يتصدى لظاهرة نمو الذهنية المتطرفة التي ازدهرت في فوضى الحرب.

وفي خضم هذه التطورات، وجوه كثيرة مرت على تعز الواجمة التي حولها الإصرار الحوثي على التشبث بها ورغبة أبنائها في تخليصها من الميليشيات الحوثية إلى منطقة مواجهات مباشرة، دفع سكانها المدنيون ثمنا باهظا مقابل تحرير كل شبر ومبنى وحي فيها.

لكن غياب الدولة واستحقاقات “المقاومة” خلف في ذات الوقت واقعا صعبا أشبه ما يكون بحقل ألغام معقد وخطر، نتيجة لنشوء العديد من القوى والكيانات المسلحة التي تقاسمت النفوذ والسيطرة داخل مربعات المدينة المحطمة وحولت مؤسسات الدولة فيها إلى محطات سيطرة.

في ظل انعدام تام لمنظومة الخدمات والحد الأدنى من رمزية الدولة، وفي مثل هذه الظروف المحبطة، فشلت كل محاولات استعادة الدولة، وظل وجود السلطة المحلية على الهامش، في الوقت الذي عززت فيه الميليشيات المتشددة التي طردت الحوثي من أجزاء واسعة من تعز من نفوذها كسلطة أمر واقع في محافظة أعلنتها الحكومة اليمنية الشرعية محافظة منكوبة.

أجندة مدنية

في الوقت الذي كانت تعز تعج بالفوضى في المناطق التابعة للشرعية، وتتعرض للقصف الحوثي العشوائي بشكل شبه يومي على المدينة، تسبب تعيين محمود محافظا في طرح موجة من التساؤلات عن هوية المحافظ الجديد، في ظل حالة الاستقطابات السياسية والحزبية، وسعي بعض الأطراف لملء الفراغ الأمني وإحكام قبضتها الأيديولوجية.

ملامح شخصيته ولدت صدمة مبكرة للجماعات المسلحة، التي لم تتقبل فكرة تعيين محافظ ليبرالي مدني يمكن أن يتصدى لظاهرة نمو الذهنية المتطرفة التي وجدت في فوضى الحرب وغياب الدولة بيئة مناسبة للتكاثر والازدهار.

عاد محمود من كندا حيث كان يقيم، وتخلى عن حالة الرفاهية والأمان الذاتي، مدفوعا بشغف جارف للمساهمة في انتشال محافظته من الفوضى والعبث، وفي أول رسالة وجهها لأبناء محافظة تعز قبيل تسلم مهام عمله، كشف عن خططه لانتزاع حقول الألغام التي تعترض طريقه، وبدا من خلال رسالته تلك، رهانه الكبير على قيم الدولة ومؤسساتها، في مواجهته القادمة مع التكتلات السياسية والقبلية التي يعتزم هزيمتها متسلحا بإرادة أهل تعز التواقين للدولة.

وتضمنت الرسالة التي قدم فيها المحافظ برنامج عمله للمرحلة القادمة، العديد من النقاط أبرزها: إعادة تفعيل مؤسسات الدولة المدنية للعمل، وتفعيل دور النيابة العامة، والسلطة القضائية، وتفعيل دور الأجهزة الرقابية والمحاسبية؛ بالإضافة إلى الاهتمام بالخدمات الأساسية العاجلة والطارئة، في إنقاذ المحافظة من الأوبئة والكوارث البيئية، والاهتمام بالمستشفيات العامة، وانتشال السكان من براثن الحصار الذي تفرضه الميليشيات الحوثية.

وقدمت ذهنيته مؤشرا للطريقة التي يعتزم بها إدارة مؤسسات الدولة عقب استعادتها، بعيدا عن “براثن الملشنة ومشروعها الرجعي المدمر”، و”تحت سقف دولة النظام والقانون، دولة العدل والمساواة والمواطنة الغير منقوصة”.

استرداد مكانة الدولة

غياب الدولة واستحقاقات “المقاومة” في تعز يخلف واقعا صعبا أشبه ما يكون بحقل ألغام معقد وخطر، نتيجة لنشوء العديد من القوى والكيانات المسلحة التي تقاسمت النفوذ والسيطرة داخل مربعات المدينة المحطمة وحولت مؤسسات الدولة فيها إلى محطات سيطرة

لقد حرص محمود على إرسال رسائل تطمين عبر تأكيده على تحييد التجاذبات الحزبية التي يمكن أن تعيق عمله. وقال "سأقف على مسافة واحدة من الجميع وأمثل “كل الاتجاهات الفكرية والجهات الجغرافية مترفعا فوق كل الاعتبارات الحزبية والجهوية والفئوية والمذهبية والطائفية”.

لم تمر ساعات على توليه منصبه، حتى تحول إلى هدف مشروع لوسائل الإعلام التابعة للجماعات المتشددة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، التي أطلق ناشطوها عملية ممنهجة وحثيثة لنبش صفحته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي وإعادة نشر بعض آرائه المناهضة لتيارات الإسلام السياسي والميليشيات المسلحة، وتغنيه بقيم الحرية والعدالة والمساواة والدولة المدينة، الأمر الذي اعتبره البعض دليل إدانة.

لكن الحملة التي طالت المحافظ أخذت طورا آخر مع بروز مؤشرات على نيته الدخول في مواجهة حاسمة لاستعادة الدولة في تعز وتقليص نفوذ المجموعات المسلحة المنتشرة في شوارع وأحياء المدينة.

وبحماسة فدائي وبذهن رجل دولة وعقلية إداري ناجح، كما يقول مراقبون للشأن اليمني، أقدم محمود منذ اللحظة الأولى لممارسة عمله على اتخاذ سلسلة من القرارات التي صبت في اتجاه عودة الحياة الطبيعية إلى محافظة تعز ومؤسساتها وإنهاء المظاهر المسلحة.

وكان من أهم تلك القرارات وأكثرها شجاعة وصرامة توجيهه كافة وحدات الجيش والمقاومة الشعبية التي شاركت في تحرير تعز بإخلاء مؤسسات ومقرات السلطة المحلية والمجتمع المدني.

وهو الأمر الذي امتثلت له سريعا “كتائب أبو العباس″ التابعة للواء 35 مدرع والتي يغلب عليها الحضور السلفي، في الوقت الذي ماطلت فيه كتائب وتشكيلات أخرى مقربة من جماعة الإخوان ورفضت تسليم المقرات التي تحت أيديها والتي يتجاوز عددها الستين، وهي محاولات يبدو أنها ستبوء بالفشل أمام صرامة وإصرار محمود الذي شرع في ترميم هوية الدولة وإعادتها للواجهة كطريقة حياة عبر الإعلان عن حرب شاملة ضد الاختلالات المالية والإدارية في كافة مرافق السلطة المحلية، ومن ذلك إصداره قرارات إقالة طالت متهمين بقضايا فساد تمت إحالتهم للسلطات القضائية.

وتبدو ملامح تعز العريقة المحفورة في صخور اليمن وآثارها مرتسمة علـى وجوه أصحاب المشروع الوطني اليمني، الذين لا تضللهم بوصلاتهم، ولا يحيدون عن طريق واضح يقطع يد المتطرفين سواء كانوا من الحوثيين المدعومين من إيران، أم من الإخوان المدعومين من قطر وإيران من خلفها.

*نقلا عن صحيفة العرب اللندنية