صيف لاهب في المخا وتهامة والساحل

المخا تهامة - Monday 06 July 2020 الساعة 11:50 am
المخا، نيوزيمن، إسماعيل القاضي:

في إحدى صباحات الصيف اللاهبة في تهامة، تشعرك كأنك تعيش وسط فرن مصنوع من ياجور قديمة، أقف لاهثاً، متصبب العرق فالسماء صافية عدا من بخار البحر والأشجار لا تتحرك البتة، فيما الرطوبة في هذه المدينة تثير الاختناق.

ردد ممتعض كره الحياة والعيش في مدينة لا تصلح إلا للموتى، أي موتى، حتى الموتى في قبورهم لولا أثقال التراب والأحجار التي وضعت عليهم، لهربوا منها.

الجو حار جدا إلى حد يشعرك وكأنك وسط اللهب، فيما يتزاحم الناس حول بائع الثلج، لم أكن اتصور ناسا بهذا التعب، بهذا الإجهاد، كأطفال سوء التغذية الحاد، الناس مهملون لأنفسهم لدرجة الإفراط، يبحثون عن الموت، ترى موتى جماعات، لولا بقاء الروح في هذه الأجساد وأي روح تصمد في هذا الإنسان المنهك.

الطيور سكنت لم تجد ما يطير حولك، درجة الحرارة بلغت في هذا اليوم 38 ْ، ربما عادت في اعشاشها باكرة هربا من كارثة ستحل بها. 

توسطت مدينة المخا المليئة بالصخب والحركة والازدحام والتجارة والباعة والمتسوقين أرى أمامي ناسا بمختلف تشكيلاتهم، البدوية، الجبلية، التهامية، الجنوبية، سيارات نقل، اطقم عسكرية وشاحنات لم تتوقف الحركة عن المدينة حتى وقت متأخر من الليل. 

في إحدى العمارات تطل شابة بوجهها الأصفر، باحثة عن نسمة هواء، أو أنها تبحث عن أكسجين بحركة طارئة لتستنشقه، هربا من موت محقق، استعادت الشابة الحياة بعد ثوان من الوقوف جوار النافذة غير آبهة بالمارة، أو من ينظر إليها.

جو الساحل يثير كل شيء والحرب والجنود أيضا، يلوكون الوقت في مواقعهم، بين الفينة والأخرى يأتون إلى هنا للبحث عن أفلام كوميدية، تروقهم وتنسيهم غربة مواطنهم. 

أقف وسط الشارع حائراً، ما كل هذا الحر، الشمس تكاد تلتهم الأشياء المجاورة، بائع الايسكريم احتمى منها بظل صندقة خشبية، وكأنها توقد لطهي لحم تيس خارجي.

اوقفت باصا إلى مقوات المدينة، المقوات مساحته كبيرة وممتلئ بالناس، قات ماوية، دحله، قيفي، عنسي عمري. 

فتيات ونسوة مهمشون وافارقة يجوبون المكان بحثا عن اوراق قات واخريات يتسولن المارة، لم أكن جريئا لأغوص في تفاصيل وجودهن، لكنني اكتفي بنظراتي إلى بعضهن.

طفلة في الثالثة عشر من عمرها تضع شمه سوداء في فمها غير عابهة بأضرارها الصحية، فيما كان آخرون من المتسولين، وهم رجال أصحاء، يحملون صغارا مغطين بقطعة قماش، يصيحون طالبين العون، لا أدري ما الذي يدفع هؤلاء للقيام بهذا العمل، وكثيراً ما أقف عند كل شخص من هؤلاء، لاستفسره عما دفعه للقيام بذلك، لكنني لا اجرؤ فامضي في سبيلي.

المخا مدينة كبيرة في التاريخ ولها بعدها الاستراتيجي ولها مكانتها، رغم كل شيء فيها، إلا انها كانت عامرة بالتجارة ومركزا تجاريا يضاهي مدنا لم تكن في الوجود، سمعت انها كانت مركز تنافس تجاري ضخما للتسوق، ومحل أطماع دول في أوروبا قديما، فعندما دخلها الأتراك طردوا التجار بحجة أنهم (صليبيون) واحرقوا الأسواق التي اشتعلت لمدة نصف شهر، فانحسر دورها وأصبحت مدينة صغيرة، منذ الثمانينات من القرن الماضي تلاشى مكانها وخفت حركتها التجارية وغادرها التجار إلى عدن.

لكن منذ تحريرها قبل ثلاث سنوات وهي تحاول استعادة الماضي والتشبث في ما هي عليها، اتتها الفرصة لتصبح ما كانت عليه قبل 200 سنة لكنها مخدرة لا تريد الاستيقاظ. 

عدت والشمس تتوسط السماء، واللهب يزداد توهجا، والرطوبة في ذروتها، رحت ابحث عن مكان أخزن فيه يقيني الرطوبة وحر الشمس مكان وحيد أوحد شاطئ البحر، في ظلة وحيدة في كورنيش المدينة، منذ وقت لم تعاود اي جهة استثماره ووضع ظلات وعشش للنزلاء والباحثين عن متنفس من صيف لاهب.

حجرة ومخدة في ظل قرب الشاطئ يفي بالغرض، وجدت ضالتي وامتطيت متكأي ورحت أسافر بعقلي لهذه المدينة لمكانها، لما تستحقه لما هي عليه... 

مر الوقت ممزوجا بتعب يوم مرهق ليس من عمل وجهد صياد، بل من لهب شمس حارقة في تهامة في فصل الصيف، اي يوما هذا.