ميناء المخا.. من القرصان "هنري" إلى قراصنة "خامنئي"!

المخا تهامة - Sunday 08 August 2021 الساعة 11:50 am
نيوزيمن، كتب /د. فاروق ثابت:

بينما كان أحد الفلاحين يعمل في بستانه كعادته بولاية "رود ايلاند" شرق الولايات المتحدة، داست قدمه شيئاً غريباً التفت للاسفل ليرى ما الذي حصل وإذا بها قطع معدنية غريبة.

عاود المزارع النظر إلى ما وجد وشك انها قد تكون عملة نقدية قديمة ليفك الشفرة لاحقاً المؤرخ الأميركي المختص بعلوم المعادن "جيم بيلي"، وهنا كانت المفاجأة.

فقد أكد الآثاري بيلي أن القطع المعدنية المكتشفة هي عملة نقدية عربية تعود للقرن السابع عشر مستدلاً بالتاريخ المصكوك على أحد أوجه كل قطعة والاكثر مفاجأة أنها عملة يمنية.

 ليتم الكشف لاحقاً أن العملة أتت من السفينة "غانج سي ساوي" التي ارتبطت بأكبر عملية قرصنة في التاريخ قادها الإنجليزي اللص القبطان" هنري ايفري "الذي اختطف السفينة من البحر الاحمر وقتل الحجاج ونهب كل الاموال في السفينة والتي يشير مؤرخون أنها كانت تحوي على اموال ومقتنيات ثمينة تعادل عشرات الملايين من الدولارات حالياً. 

يرجح مؤرخون يمنيون أن العملة اليمنية التي عثر عليها في سفينة الملك الهندي "اورانغزيب" المختطفة على علاقة بميناء المخا الذي شكل أحد أهم الموانئ التجارية العالمية آنذاك كنقطة ترانزيت وتموين لسفن الحجاج وميناء تجاري دولي لتصدير المنتجات الزراعية اليمنية كالبن والفواكه والحبوب والعسل اليمني فضلاً عن أن الميناء يعد نقطة وصل بين قارتي آسيا وافريقيا آنذاك. 

في أي جولة لك بأحد المولات التجارية في آسيا قد تأخذ فترة استراحة بأحد مقاهيها ذات الماركة العالمية، ستلفت انتباهك الاعلانات المصورة على الحيطان من الداخل وهي تروج لمشروب "موكا كافيه" الساخن. 

لن يقتصر الأمر على محال القهوة في آسيا والمتنوعة بين "أولد تاون، وبابا ريتش، وستاربوك" ولكن ستجد المحال تتهافت على التقديم لقهوة "موكا كافيه" في أوروبا، وامريكا واستراليا وافريقيا، واسماء وكالات تقديم القهوة فيها بالعشرات ك"دوتش بروس، كافيه بين، وكاريبو كافيه، ودونكبن دنوتس، وبيتس كافيه، وكوستا ولا فازا" وغيرها الكثير.

ستتساءل لماذا "موكا كافيه" بالذات؟ لتتأكد أن الاسم مرتبط بميناء المخا الذي عرف بالمُصَدِّر الأول للبن اليمني العريق إلى كافة دول العالم ومنه عرفت شعوب العالم أصالة ونكهة البن اليمني الاكثر والاعظم جودة ولذة، وهو ما يشير إلى أن الميناء لم يكن مجرد رصيف لاستقبال وارسال السفن، ولكنه محطة تجارية واقتصادية عالمية.

ونظراً للأهمية الكبيرة التي احتلها الميناء فقد تعرض لحملات عسكرية كبرى من ضمنها الحملة البرتغالية في منتصف القرن السادس الميلادي الذي يقابله مطلع القرن العاشر الهجري. 

كان الملك الحميري يوسف "أسار" المشهور "بذي نواس" يقعد على عرشه منتشياً بما تحت يده من أراض وسهول وجبال وسواحل بينها ميناء المخا، الذي دونته النقوش القديمة في عهد الملك "أسار" ب"مخن".

قبل ذلك مر الملك التبعي "افريقس بن ذي المنار الرائش" الذي سميت افريقيا باسمه بجيشه عبر ميناء المخا إلى افريقيا كما يعتقد ذلك مؤرخون، وهو الملك ذاته الذي اعتبره المفسرون ب"الملك تبع" المذكور في القرآن.

وهذا ما يؤكد بأن ميناء المخا وجد بأهميته العسكرية والاقتصادية الكبيرة منذ أن وجد الانسان اليمني.

منذ القرن السادس عشر الميلادي زادت شهرة المخا كميناء وسوق كبير للمسافرين والتجار وكان محل جذب وتهافت الحجاج لاقتناء حاجياتهم ومقايضة العملة إلى درجة أن السفن الخارجة من البحر الاحمر كانت هدفا لاكبر عملية قرصنة في التاريخ لأجل سرق الكنوز ومقتنيات المسافرين.

في القرن السابع عشر الميلادي كانت مدينة المخا تحت سيطرة العثمانيين لتحظى باهتمام بالغ غرضه فرض القانون العثماني بمطالبة جميع السفن الراسية حينها بدفع ضرائب المرور من البحر الاحمر.

إضافة إلى البن اشتهر الميناء قديماً بتصدير الصبر والبخور، واعواد الاراك، والزبيب، والعسل اليمني. 

ولم يكن الميناء هدفاً لأطماع العثمانيين فحسب، ولكنه أيضاً استهدف من قبل الإيطاليين مطلع القرن ال19 حيث جرت حرب طاحنة في المخا بين الطرفين كانت الضحية هي المدينة ثم الانسان، حيث دمرت الحرب معظم مباني المدينة ولم تمر سوى سنوات قليلة حتى اندلعت حرب أخرى في المخا بين العثمانيين والبريطانيين إبان الحرب العالمية الأولى ليتم الاجهاز على ما تبقى من المدينة. 

لم تقف المدينة عند ذلك الدمار الذي حصل ازاء حملة البرتغال ثم حربي الاتراك والطليان ثم الاتراك والانجليز فحسب، ولكنها تعرضت لدمار وقصف واحراق عدواني متعمد من قبل الاتراك بعد انسحابهم من المدينة وخروجهم من اليمن ككل، لتتحول المدينة إلى قبضة الائمة بعد العثمانيين ولكنها لم تكن افضل حالاً، ولم تشهد أي تطور في المعمار أو البناء أو الخدمات بقدر ما فاقمت الإمامة السلالية من معاناة المدينة وتسببت في تراجع مستواها كميناء اقتصادي وتجاري وحاضرة عامة، ولم يكن تركيزها سوى على الجبايات والتسلط والضرائب الفادحة ما جعل النشاط التجاري يتحول صوب عدن البعيدة عن تسلط وقذارة الإمامة وإن كانت تحت يد البريطانيين إلا أن عدن وموقعها ووضعها تحت سيطرة البريطانيين لا يقارن بوضع ميناء المخا المتردي والمنهار. 

منذ فتح قناة السويس الرابطة افريقيا وآسيا بأوروبا لم تعد أهمية المخا كميناء اقتصادي وتجاري فحسب ولكن أهميته الكبرى باتت تنبع من قربه من الممر الدولي بمسافة ستة كيلومترات تقريبا بما يعادل 3.2 ميل بحري، ويربط بين أوروبا وشرق افريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلى موقع الميناء الجغرافي المتميز بالنسبة للمناطق الجنوبية والمناطق الوسطى وقربه من مضيق باب المندب ودول القرن الإفريقي والبحر العربي وكل هذه الميزات جعلت منه ميناء هاما واستراتيجيا.

وهذا الأمر فاقم مؤخراً من الأطماع الدولية والاقليمية الحاصلة في ظل ما يسمى ب"حرب الموانئ" وقد اعلنت الصين قبل سنوات انشاء "طريق الحرير"، وهو الامر الذي أسال لعاب ايران للدفع بمرتزقتها لشن حرب واسعة بغية السيطرة على الموانئ والسواحل اليمنية لتعطيلها وتأميمها لصالحها، وخاصة ميناء المخا، ومضيق باب المندب، ورغم استعادة المخا ومضيق باب المندب من تحت يد المليشيا الايرانية إلا أن الخطر ما يزال قائما إزاء تهديد طريق الملاحة الدولية الرابطة بين القارات الثلاث.

سيبقى قراصنة إيران يهددون الموانئ اليمنية والملاحة الدولية بما في ذلك أهم ميناء تاريخي طالما دابرهم لم يقطع من الأراضي اليمنية بشكل نهائي.