سيرة كفاح عبقرية.. المُلهم علوان سعيد الشيباني

تقارير - Friday 10 June 2022 الساعة 06:25 pm
نيوزيمن، كتب/ د. فاروق ثابت:

من بني شيبة -ريف تعز- خرج ذلك الفتى المولود في قرية "المدهف" في العام 1936 يشق طريقه نحو المجهول بحثا عن العلم والعيش الكريم، لا يحمل معه شيئا سوى لباسه والجوع والفقر، وإرادة كبيرة تفوق حجمه وعمره بأضعاف المرات. 

كانت وجهته مدينة "ديردوا" في الحبشة التي وصلها في العام 1949 واستقر بها.

وإلى "مطعم الطاووس" الذي كان ملك الجار بقرية "المدهف" علي محمد الهاشمي، وصل علوان برفقة الجار ومن ثم باشر العمل وهو ما يزال طفلا، مرت الأيام ومعها ازداد طموح الفتى علوان، ورغم ما كان يدره العمل له من مال بإمكان الفتى أن يوفره وينشئ به مشروعا صغيرا في المستقبل إلا أن طموح العلم ظل جاثماً على عقل الفتى الشيباني وبقى يزداد قوة كلما مر الزمن.

فترة وجيزة فقط حتى قرر علوان العودة من الحبشة إلى عدن لغرض العلم في العام 1956،  وفي عدن التحق بمدرسة بازرعة الخيرية ثم غادر إلى مدينة طنطا المصرية بدعم من الاتحادين اليمني والشيباني، ليكمل هناك دراسته الإعدادية والثانوية.

أثناء إقامة علوان في الحبشة لم يستهلك وقته في العمل ثم النوم فقط بمطعم الطاووس كبقية العمال، ولكنه كان يستقطع ساعات من وقت استراحته المفروضه من الدوام للدراسة على يد معلم يمني هناك في "ديردوا" يدعى عبدالعزيز الصنعاني، ورغم ما تعلمه الفتى الشيباني من الكتابة وقراءة القرآن وعلوم الدين والحساب إلا أن قلبه كان معلقا للدراسة في مصر أسوة بزميله عبدالله حسن الذي غادر "ديردوا" للتو واتجه للتعليم في القاهرة. 

أثناء المرحلة المتوسطة بمدرسة بازرعة في عدن لم يكن المستوى التعليمي لذلك الفتى القروي القادم من أقاصي تلال الحجرية كبقية زملائه الملتحقين معه في ذات الفصل، حيث كان عقل علوان يفوق سنه، الأمر الذي أذهل مدرسيه، ثم جعلهم يصعدونه مستويين دراسيين عن بقية زملائه لينتهي الأمر بابتعاثه مع طالبين آخرين للدراسة في مصر، على حساب كل من نادي الاتحاد اليمني ونادي الاتحاد الشيباني.

 غادر علوان اليمن وهو يطير فرحا محققا حلمه الذي طالما حلم به وبقي هاجسه للدراسة في مصر، اللحاق بزميله عبدالله حسن الذي سبقه للسفر إلى أرض الكنانة حيث ثورة العلم والحضارة والتطور.

حاز علوان على الثانوية العامة من مدرسة محمد فريد بطنطا بتفوق، فاتجه صوب الدراسة بجامعة عين شمس بتخصص هندسة، غير أن ظروفه المادية لم تعنه على مواصلة الدراسة، لذلك فقد بدأ البحث عن مصدر تمويل يعينه على دراسة برنامج البكالاريوس في ذات التخصص، فاتجه صوب برنامج أميركي يقدم منحا للدراسة في الولايات المتحدة فقدم وثائقه، وفاز بخطف منحة دراسية من ذات البرنامج، ليلتحق للدراسة بجامعة كنساس في الولايات المتحدة الأمريكية في العام 1962. 

قبل ذلك ظل الشيباني لنحو عام تقريبا قبلة لطلبة اليمن القادمين للدراسة في الجامعات المصرية يعلمهم دروسا خصوصية في اللغة والعلوم والرياضيات لتقويتهم على الدخول في التخصصات المطلوبة في جامعات مصر. 

وفي جامعة كنساس كانت معاناة أخرى ونضالا أكبر للطالب المكافح القادم من ريف تعز علوان، ظروف ونضال لم تثنه عن طموحه، ولم يستكن أو يتردد حتى اجتاز ما واجهه من صعوبات بعزيمة وإرادة صلبة تكللت بالنجاح. 

في جامعة كنساس، بدأ الشاب ينشط بين صفوف زملائه بدوافع القومية والعروبة فانطلق لتشكيل رأي مناهض لموقف الولايات المتحدة المساند للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وبسبب هذا الأمر اتخذت إدارة برنامج المنحة الدراسية لعلوان قرارا بتوقيف المنحة بشكل نهائي، وهو الأمر الذي دفع بالجامعة حينها إشعار الطالب بمغادرة البلاد، غير أن الجامعة تراجعت عن الضغط لمغادرة الطالب إثر تدخل أحد مدرسي علوان بعد التزامه لعميد الطلبة الأجانب بتولي دفع الطالب الرسوم الدراسية بنفسه، ليتجه الشيباني إلى معاناة أكبر كانت كفيلة بفتح الباب له للانطلاق والجد والعمل على مصراعيه فيما بعد. 

يقول علوان الشيباني في حديث له لمتدربين شباب ببرنامج رعاة علوان في مأرب مؤخرا، لشباب رفضوا اختيار التدريب للعمل في السباكة والإمدادات الصحية -نقل الحديث الكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني- والحديث لعلوان:

- لماذا لا تريدون العمل كسباكين وعمال إمدادات صحية؟! 

هذا عيب (الرد من الشباب المتدربين في مارب).

- هذه مهنة من المهن التي تدر دخلا مرتفعا، والطلب عليها في زيادة. 

هذه مهنة حمامات ومطاهر وفي سالفنا عيب العمل بها.

- هل تعرفون أني حينما كنت طالبا في أمريكا وكان علي دفع الرسوم الدراسية بانتظام إلزاميا،  كنت أعمل في مطعم فندق أنظف الأطباق، وحمامات النساء وأمسح أحذية النزلاء، مقابل القليل من المال، الذي يعينني على مواصلة التعليم في الغربة، وها أنذا بينكم فما الذي نقص مني؟! 

ويتابع: العمل الشريف ليس عيبا، علينا أن نكسر الصنم الأكبر الذي يعبده المتخلفون، إن أردنا تحولا إيجابيا في المجتمع. 

ونظرا لظرف قطع المنحة وتكفل علوان دفع الرسوم بنفسه فقد دفعه ذلك إلى تغيير التخصص من هندسة مدنية، إلى اقتصاد وعلوم سياسية.

أثناء فترة دراسة علوان تعرف على الشابة "كارمن" لتصير شريكة حياته وأما لابنتيه فيما بعد.

شكلا علوان وكارمن ثنائيا عمليا عبقريا إلى جانب أنهما زوجان مثاليان، علوان يتخصص في الإدارة والتخطيط، وكارمن تتجه نحو تنفيذ العمل الخيري. 

فمنذ رجوع الزوجين العظيمين اليمن، أسسا مؤسسة الخير التنموية، كبر المشروع الخيري أكثر وصار اسمه "مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية"، كانت تقضي كارمن وقتا أطول فيه لتنمية المجتمع اليمني وإعانة الفقراء بدعم وتمويل من زوجها العم علوان، ويؤرخ لهذه المؤسسة أنها جسدت البداية الأولى لأساس المنظمات المدنية الداعمة للمجتمع في اليمن. 

انطلقت المشاريع الخيرية لمؤسسة الخير لتلف كل اليمن ولم تقف عند ريف الحجرية فحسب، وتولت مشاريع تعليمية، وتدريبية وطبية، واجتماعية، وتخرجت منها دفع يمنية من مئات القرى اليمنية ومناطق الريف على كل رقعة التراب اليمني، حيث كان العم علوان يحرص بنفسه لحضور تكريم المتخرجين أثناء حفلات تخرج الدفع المدربة، ليلقي لهم كلمات محفزة ومؤثرة تدفعهم للانطلاق للعمل في مجتمعاتهم دون كلل أو كسل أو تراجع أو نظر للوراء.

 وهو الأمر الذي مكن الآلاف من الحصول على مهن تدر دخلا لهم ذكورا وإناثا لإعالة أسرهم من جهة ومن جهة أخرى خدمة المجتمع بمهنهم والسعي به نحو التغيير بما يستطاع إليه سبيلا استفادة من هذه المشاريع التي أشرفت عليها ونفذتها مؤسسة الخير. 

شكل التعليم حجر الزاوية في جملة أهداف العم علوان الخيرية، لذا فقد أسس معهدا علميا يتوسط ثلاث عزل في إحدى المحافظات اليمنية، يؤم إليه الطلاب من مناطق وقرى بعيدة وخاصة خريجي الثانوية العامة ليعلمهم اللغات ومهارات الحاسوب، لإعانتهم على الدخول للجامعات، كما بنى علوان الشيباني معاهد مماثلة في عدة محافظات. 

كتب أحد المدونين أنه كان يدرس بجامعة صنعاء، وكان لا يعرف عن رجل الأعمال علوان الشيباني إلا من زميل له يدرس معه في ذات المستوى، وأخبره أنه يتلقى الدعم من العم علوان لإتمام دراسته البكالوريوس. 

ويتابع: "بعد فترة من التخرج عرفت أن زميلي غادر لدراسة الماجستير في الولايات المتحدة، وبدعم خاص من علوان الشيباني".

 علوان سعيد الشيباني أعلن ثم نفذ تكفله بتقديم رواتب لمئات المدرسين في كل قرى ومناطق بني شيبة. 

 علوان سعيد الشيباني تولى في السبعينيات من القرن المنصرم مجلس إدارة الخطوط الجوية اليمنية، وعلى يديه تحققت قفزات إدارية نوعية للشركة مكنتها لتكون منافسة في سوق شركات الخطوط الجوية في العالم. 

ومنذ أن انطلق للعمل في مجال السياحة استطاع تكوين نحو 22 شركة كلها تحت الشركة العالمية الشهيرة التي جسدت نقطة الوصل بين اليمن والعالم، ويعود للرجل أول ترتيب برامج سياحية للزوار الأجانب بباكجات وخطط على غرار شركة السياحة الدولية في الاستقبال والتسكين والتفويج ومن ثم التوديع بعد انتهاء الفترة المقررة للزيارة. 

كما يعد علوان أحد أركان مجلس الترويج السياحي اليمني،الذي تم ربطه بمعظم الفعاليات السياحية في العالم، بحيث يتم فيه ترك حيز لمشاركة اليمن ومن خلاله تم التعريف باليمن إلى السوق السياحية الدولية على نحو أمثل.

ورأس علوان الاتحاد اليمني للفنادق، ويحسب له ربط الحكومة اليمنية بدول أوروبية لفتح علاقات دبلوماسية أوسع وبالتالي استحداث سفارات تبادل سفراء بين بلادنا وتلك الدول. 

علوان الشيباني نشط مؤخرا وحتي وفاته للمساعدة والتمويل في إنجاز دراسة يمنية رائدة حول المهجر اليمني، تكشف عن الأدوار الحضارية لليمنيين وهجراتهم في البقيعة منذ مئات السنين، وكيف أسهموا في تغيير مجتمعاتهم التي وصلوا إليها ودورهم في تنمية الداخل. 

 فقدت اليمن علوان الشيباني، الأربعاء الماضي، عن عمر ناهز 86 سنة وهو تحت العلاج في لندن، وتسبب ذلك بحزن عميق بين الأوساط التجارية، والمثقفة والإعلامية، والسياسية، وعامة الناس.

الكاتب محمد عبدالوهاب الشيباني قال: بينما تتسم بيئة رجال الأعمال -عادة- بالأنانية والتضخم اللامشروع للثروات، واستغلال الوظيفة العامة للإثراء، هنا نموذج آخر، لرجل عصامي ومثابر، غادر الحكومة بمعناها المناقض للمصلحة العامة، وبنى حساسيته الوطنية العالية بمنأى عن التزلف أو ملاحقة الأضواء أو الإيقاع بالخصوم والشركاء. نعم، إنه علوان الشيباني.

وأردف في مقال له بأحد المواقع اليمنية: ومع اليقين من أن كل النماذج تتشكل في لحظة مفصلية من التاريخ، نتساءل عن أي لحظة فارقة تلك التي جادت بمثل هذه الشخصية السخية تجاه مجتمعه؟ بالرجوع إلى السجل الناصع، نجدها في نهاية أربعينيات القرن المنصرم، إذ كان العمل التعاوني الأهلي في خضم تعاضده داخل مدينة عدن (المستعمرة السابقة للتاج الملكي). فبعد أربع سنوات من عمل مضنٍ في الحبشة، عاد علوان الشيباني -وكان حينها فتى في الـ17 من العمر- خائبًا إلى عدن، فتلقفته مدرسة بازرعة ثم نادي الاتحاد الشيباني الأهليين.

وتابع: نتحدث في خضم الحزن، عن الخسارة، في زمن عز فيه الحديث عن المجتمع، دون أن يرتجى من ذلك التآمر على الناس، أو استغلال معاناتهم للوصول السهل إلى السلطة. 

مضيفا: الخسارة هنا، إذ نعنيها، هي توقف راتب معلم، حرص علوان على إرساله له، حين تنكرت دولة بكامل مقوماتها (شمالًا وجنوبًا)، وتآمرت على لقمة عيش مواطنيها، معونة مالية لنحو 300 طالب وطالبة كي يواصلوا تحصيلهم، ويلتحقوا بسوق العمل، إن لم يكن علوان هو سوق العمل، والملاذ الأخير لخريج، من الوقوع في براثن البطالة.

وأكد محمد عبدالوهاب: لا ينبغي لهذه الأسوة أن تموت، أو تضمحل، لأنها خليقة العمل التعاوني الجمعي، لحظة التكاتف التي تعبر بها الأغلبية عن نفسها، وتأملها بذرة لبناء مجتمع الأمة، لا القادة المتخمين.

من جانبه كتب رجل الأعمال شوقي أحمد هائل تعزية حزينة على هذا الفقد جاء فيها: ودعنا بألم بالغ وحزن شديد العم العزيز علوان الشيباني الذي غابت عنا ابتسامته التي كانت لا تفارق محياه. فقدنا أبًا فاضلاً، ورجل أعمال ناجحا، رائدًا في مجال السياحة والسفريات، محبًا للخير والناس ويحمل في قلبه النقاء والأخلاق الرفيعة، عرفناه جميعًا كريم النفس، طيب المعشر وصادق الود.

وأضاف شوقي هائل في منشور له على صفحته ب"فيسبوك"، لقد كان العم علوان من الأصدقاء المقربين لوالدي -رحمهم الله جميعًا- وكانت تجمعهم علاقة أخوة وثيقة وصادقة، وبهذا المصاب الجلل، أتقدم بخالص العزاء وأصدق المواساة لبناته وكافة أفراد أسرته العزيزة، سائلاً المولى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يغفر له ويتجاوز عنه ويلهم الجميع الصبر والسلوان.

إلى ذلك دون الكاتب جلال أحمد مقالا ينعى وفاة العم علوان جاء فيه: بين سلم المجد الذي اعتلاه وبين الموت قصة يجب أن تروى وتكتب بماء الذهب.

وتابع: يدمر المال أخلاق الناس ويشتت تفكيرهم ويجعلهم يركضون وراء السراب غير أن العم علوان هذب المال وروضه وطوعه ليجعل منه أداة من أدوات الحب والخير والعطاء والبناء والتنمية.

وأضاف جلال: غير الرجل الكثير من مفاهيم المال والتجارة ليحولها إلى فكرة خلاقة من أجل الناس وفي خدمتهم دون الاستغلال البشع وعناوينه الذي يخلقه المال والطمع في حياة البشر. 

وأكد الكاتب جلال: في حياة الرجل منذ النشأة ثمة حكايات إنسانية ملهمة يجب أن تروى للناس بعيدا عن لغة المال والمصالح والانتفاع، وثمة حياة إنسانية مليئة بالتعب والجهد يجب إخراجها للناس في جوهر فلسفتها وروحها التي تنفع الناس ومن أجلها وفي صميم تطلعاتهم وثمة ضرورة لاستمرار هذه الثقافة والمحافظة عليها بعد حياة هذا الرجل الاستثنائي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.  

لروحه السلام والطمأنينة.