الدكتور حمود العودي في نقاش جديد عن: التنوع الفكري والمذهبي بين التعددية الإيجابية والتمييز السلبي

السياسية - Monday 24 June 2019 الساعة 11:44 pm
المخا، نيوزيمن، كتب/ د.حمود العودي:

إذا كان التنوع المكاني الجغرافي لليمن قد أفرز تنوعاً اقتصادياً واجتماعياً إيجابياً ومثيراً فإن التنوع الفكري بأبعاده السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية المختلفة هو أقل ارتباطاً بطبيعة المكان الجغرافي، سواءً في اليمن أو غير اليمن، لكنه ليس خارجه بالمطلق حيث يترك المكان تأثيره في نمط التفكير السياسي والاجتماعي والديني والثقافي بصفة عامة وبصورة غير مباشرة على الأقل وذلك ما يتضح من خلال الآتي:

أولاً: التنوع والتعدد الإيجابي فكرياً

اليمن، وبحكم موقعه الطرفي، في أقصى جنوب غرب الجزيرة العربية وأقصى جنوب منتصف الإمبراطورية العربية الإسلامية قديماً والوطن العربي حديثاً، قد ظل في الماضي العربي الإسلامي البعيد والقريب وحتى الآن هو من أهم الملاذات الآمنة في التاريخ العربي الإسلامي لكل الحركات الفكرية والسياسية والدينية المعارضة بل والمقاومة لسلطة الخلافة المركزية القوية في دمشق الأموية أو بغداد العباسية أو القاهرة الفاطمية، حيث لا نكاد نلحظ حركة معارضة من أي نوع في التاريخ العربي الإسلامي إلا ونجد لها في اليمن موقعاً هاماً أو موضع قدم على الأقل ولها منه سبب، بدءاً من قضية التحكيم بين علي ومعاوية، مروراً بكل حركات المعارضة اللاحقة على اختلاف مشاربها السياسية والاجتماعية والدينية، من سنة وشيعة ومعتزلة وخوارج وإسماعيلية وقرامطة في الماضي، وصولاً إلى التيارات القومية والاشتراكية والدينية الحديثة والمعاصرة، بدءاً بالناصرية والبعثية والماركسية، وانتهاءً بالسلفية والوهابية والإخوانية المتنامية اليوم، حيث نجد أن أغلب هذه الحركات الراديكالية ذات المنحى الثوري والتغيير الجذري بالعموم قديمها وحديثها يمينها ويسارها لم تجد في اليمن مأمناً لها من الخصوم الأقوياء فحسب بل ولقد أقامت تجارب ونظماً سياسية أو اجتماعية لها على معظم الساحة اليمنية أو في زاوية منها على الأقل، وبموازاة نظم وحركات أخرى في نفس الوقت، لا لمجرد حماية الذات وإثبات وجودها بل وبهدف الانطلاق منها إلى ما بعد اليمن من البلاد العربية والإسلامية، ومن لم يتمكن من إقامة تجربة سياسية فقد وجد من اليمن ملاذاً آمناً لممارسة فكره السياسي أو الديني بمنأى عن بطش الخلافة المركزية، بحكم بعد المكان عن المركز من جهة وصعوبة التعامل معه ومع أهله عسكرياً من جهة أخرى، ورحابة صدر أهل اليمن وتطلعهم الدائم للتعامل مع كل ما هو جديد من جهة ثالثة.

ما يعني أن اليمن كانت، وما تزال، وعاءً كبيراً وصدراً رحباً للتنوع الفكري والثقافي والسياسي والديني العربي الإسلامي والعالمي لا يكاد يجاريه مكان آخر على امتداد العالم العربي والإسلامي، ويكفي دليلاً على ذلك أن الفكر المعتزلي بأبعاده الفلسفية والدينية والسياسية المختلفة وهو أرقى ما وصل إليه فكر ومنطق المجتمع العربي الإسلامي وقامت على أساسه أبهى مراحل الازدهار الحضاري أيام الخليفة المأمون، والذي قام أعداؤه باستئصاله مع أهله بعد ذلك من كل أرجاء دولة الخلافة، قد كان له في اليمن خير ملاذ آمن من جراء ذلك البطش الظلامي المدمر حتى النصف الثاني من القرن العشرين حينما كشفت خزائن مكتبات الجامع الكبير بصنعاء وبيوتات العلم والثقافة الخاصة عن الكثير من نفائس التراث الاعتزالي المباشر وفي مقدمتها كتاب "المغنى" للقاضي عبدالجبار وكذلك هو تراث وفكر القرامطة والإسماعيلية الذي ما يزال موجوداً مع أهله في خزائن وعقول اليمنيين ولو طي الكتمان نتيجة ما لحق بهم من البطش والتنكيل الإمامي الظالم.. كما أن اليمن، وفقاً لأكثر التقديرات اختصاصاً في مجال التراث الوثائقي المكتوب والمخطوط، تحتفظ بأرقام مليونية من المخطوطات لشتى مناحي الفكر والمعرفة والتي لا يجاريه في ذلك أي مكان آخر في محيط الأمة العربية والإسلامية.

ويكفي اليمن حديثاً أنه في سياق الفكر الإنساني والعالمي المعاصر قد أقيمت فيه أول وآخر تجربة اشتراكية علمية في الوطن العربي والإسلامي لأكثر من ربع قرن بما لها وما عليها، وإن اليمن على صعيد التوحد القومي قد حقق وحدته الإقليمية بين الشمال والجنوب سلمياً، في زمن ازدياد التمفصل والتمزق العربي والإسلامي بل والعالمي، وأنه اليوم يعيش مخاض ولادة نظام سياسي وطني ديمقراطي شعبي عام، مقابل اتجاه توريث الأنظمة الجمهورية العربية ناهيك عن الملكيات والسلطنات والإمارات في الوطن العربي، كما أن اليمن التي تحتفظ بأكبر رصيد من علماء وأعلام الدولة العربية الإسلامية لم تكف بعد عن إنجاب الكثير من العقول والشخصيات الفاعلة في التاريخ الحديث والمعاصر، والذين لم يكن الإمام محمد علي الشوكاني أولهم ولا عبدالفتاح اسماعيل وأسامة بن لادن آخرهم، وبصرف النظر عن الآراء والمواقف الخلافية حولهم، لأن هذا إذن هو التنوع والتعدد الفكري بأبعاده ودلالاته السياسية والاجتماعية والدينية المختلفة في حياة اليمن واليمنيين، إنها باختصار فاعلية اليمن في التاريخ والتطور الاجتماعي للعالم العربي والإسلامي بلا توقف، رغم محنة الإمامة وتسلط الاستعمار لبعض الوقت.