الدكتور حمود العودي متتبعاً سيرة السلطة والمعارضة في اليمن مع "المجتمع المدني": من التحريم إلى التدجين (1-2)

السياسية - Friday 26 July 2019 الساعة 11:11 pm
نيوزيمن، كتب/أ.د. حمود العودي

العنوان الأصلي للمقال: 
إلى منظمات المجتمع المدني: إلى متى ستظلون مجرد كلمة حق يراد بها باطل؟!

الكثير من الأشياء العظيمة في حياة الأوطان والأمم -وحتى الإنسانية مجتمعة- كالحرية والديمقراطية والاشتراكية والقومية والثورة والجمهورية والوحدة، وحتى التعددية الحزبية -بما في ذلك منظمات المجتمع المدني- التي كثيراً ما يتم محاربتها بالمنع والحظر المباشر عليها، باعتبار الحرية مروقاً وفوضى! والديمقراطية خروجاً عن المألوف! والاشتراكية كفراً!! والقومية والثورة والجمهورية بدعاً منافية للدين! وكذلك هي الحزبية كخيانة! ومنظمات المجتمع المدني كبدعة! وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار! إلى غير ذلك من كل ما يحفل به القاموس السياسي الرجعي المتخلف، والفهم المغلوط والمشوه للدين والدنيا! دفاعاً عن مصالح متخلفة واستزادة منها كما سبق وأن أوضحنا.

غير أن ما هو أسوأ وأخطر من الرفض والمحاربة الصريحة لمثل هذه الأشياء العظيمة التي ضحت البشرية من أجل تحقيقها بالكثير والكثير عبر العصور.. هو أن تُمسخ وتُفرغ من مضمونها الإيجابي..! حينما يعجز أعداؤها عن منعها؛ فيلجأون إلى ما هو أخطر من المنع، وهو المسخ والإفراغ من المضمون! بل وتحويلها إلى عكس مضمونها؛ أو إلى مجرد كلمات حق يراد بها باطل في أحسن الأحوال! كديمقراطية الـ99.9% عند الحكام العرب -الذين منهم من لقى حتفه بما صنعت يداه، ومنهم من هو سائر حتماً إلى نفس المصير، لأن "من اصطبح بالكذب ما تغدى به" قرب الوقت أم بعد، وهذا هو ما نود توضيحه بالنسبة لعلاقة السلطة والمعارضة بمنظمات المجتمع المدني في اليمن، وعلى النحو الآتي:

أولاً: تقاسم السلطة والمعارضة لمنظمات المجتمع المدني:

- من التحريم إلى المسخ والتدجين من الداخل

إذا كان المجتمع المدني ومنظماته المدنية في اليمن -وأبرز قطاعات أغلبيته الصامتة هو ما نود تسليط الضوء عليه في هذا الصدد كنموذج- فإن أول ما يمكن تذكره أو التذكير به هو:

أن الكثير من منظمات المجتمع المدني في اليمن قد كانت حتى قيام الثورة -في شمال الوطن على الأقل- من بين محرمات النظام الإمامي المتخلف، ومن عمل الشيطان الرجيم! فلا نقابات ولا اتحادات ولا جمعيات ولا أي تجمعات من أي نوع، ناهيك عن الأحزاب السياسية.

أما بعد الثورة المباركة والاستقلال؛ فقد ازدهرت منظمات المجتمع المدني في شمال الوطن كما في جنوبه، حيث تأسست في ظل الإدارة الاستعمارية البريطانية وتعاظم دورها السياسي والوطني بعد الاستقلال، كما بدأت في البروز العلني لأول مرة في شمال الوطن، ولم يعد في إمكان السلطات السياسية قبل الوحدة ولا بعدها أن ترفض أو تتنكر لهذه المنظمات، لكن خشيتها السياسية منها جعلها تميل إلى ما هو أخطر من الرفض والحظر، وهو الاحتواء والمسخ؛ الذي يمكن أن يزايد على الاحتفاظ بالشكل المفرّغ من أي مضمون؛ خصوصاً بعد إقرار التعددية الحزبية كأساس للعلاقة بين السلطة والمعارضة بعد الوحدة -من الناحية النظرية على الأقل- حيث أجهزت كل من أحزاب السلطة وتحالفاتها والمعارضة وشركائها على منظمات المجتمع المدني وأفرغتها من مضمونها عمليا، مع الإبقاء على مسمياتها الاجتماعية شكليا (اتحادات، جمعيات، نقابات، نوادٍ... الخ) شكلاً بغير مضمون، وبوسائل متعددة أهمها الاستقطاب الحزبي المباشر وغير المباشر والأمني بالنسبة للسلطة، إلى جانب التفريخ الشكلي لمسميات خالية من المضمون أو حتى الوجود الفعلي على أرض الواقع، بغرض المزايدة السياسية "محلياً". وقطع الطريق على الآخر، وتفتيت القطاعات النقابية الهامة في منظمات المجتمع المدني وتقاسمها بين أطراف السلطة والمعارضة، كنقابات العمال والمعلمين والأطباء والطلاب... الخ، إضافة إلى الباب المخلوع في وزارة الشئون الاجتماعية والذي يمنح التصاريح لكل من هب ودب لأسباب شخصية أو مغرضة أو مجرد خلق "غُثاء" يجعل من مثل هذه المنظمات حالة من المسخ الذي لا يشجع أو يقنع أي جهود خيرة ووطنية صادقة على العمل والانتماء لهذا الوسط المدني الذي يقوم اليوم على مستوى العالم بأبرز الأدوار الوطنية والتاريخية في التنمية والسلم الاجتماعي وتعزيز الحقوق المدنية، بينما ما أرادته السلطة والمعارضة في اليمن؛ مجرد مسخ سياسي تابع لها! ومجرد شكل يتم النفخ فيه على المستوى الإعلامي في كل مناسبة -وعلى مدار الساعة- بكلمات حق يراد بها باطل، وعلى طريق من يقتل القتيل ويأكل لحمه ويمشي باكياً في جنازته؟! حيث لا ترى السلطة في من لا ينضوي تحت كنفها السياسي -من منظمات المجتمع المدني- إلا كيانات غير شرعية وغير قانونية تستحق العقاب، ولا ترى المعارضة في من لا ينضوي تحت كنفها من هذه المنظمات؛ إلا كيانات "عميلة" للسلطة وأجهزتها الأمنية، وهكذا دواليك. أما حينما تكون السلطة والمعارضة على وفاق -في تقاسم المنافع- فإن آخر ما يمكن الحديث عنه هي؛ منظمات المجتمع المدني المطلوب حضورها في مقدمة صفوف الصراع واختفاؤها عند التقاسم كما حدث مؤخراً! وكما كان يحدث دائماً.

الابتزاز والتبعية للخارج

وتكتمل الصورة المؤسفة -لواقع منظمات المجتمع المدني في اليمن كما هو في معظم أقطار الوطن العربي- إذا ما أضفنا دور السفارات الأجنبية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية تجاه منظمات المجتمع المدني كثالث ثلاثة في التقاسم غير المشروع لمنظمات المجتمع المدني بعد السلطة والمعارضة السياسية الحزبية، بل وربما أكثرها خطورة، لأن احتواء منظمات المجتمع المدني في اتجاه الداخل -كسلطة أو معارضة- هو أهون وأقل خطورة بكثير من الاحتواء والتبعية للخارج، خصوصاً مع وجود فتات المال الأجنبي المغري لهذه المنظمات على تفاهته!

وما فضيحة العلاقة غير المشروعة لبعض منظمات المجتمع المدني في مصر مؤخراً عنا ببعيد، خصوصاً مع غياب الرقابة الداخلية الرسمية التي تنظم علاقة الداخل بالخارج -فيما يتعلق بمنظمات المجتمع المدني وغيرها من شئون علاقة الداخل بالخارج- بشكل عام على المستوى الوطني، لأن فاقد الشيء لا يعطيه بعد أن أصبح حاميها حراميها، مع الأسف الشديد.

الأسوأ هو أن تقبل منظمات المجتمع المدني بمثل هذا الوضع.

أما الأسوأ من كل هذا وذاك؛ فهو أن تقبل منظمات المجتمع المدني على نفسها بمثل هذا الوضع المشين الذي لا يفقدها دورها الإيجابي تجاه نفسها والآخرين فحسب؛ بل ويجردها من هويتها الاجتماعية والوطنية كهمزة وصل وتواصل خّلاّق بين بنية المجتمع الفوقية وقاعدته الاجتماعية والشعبية الواسعة.

وإذا كان لدى الآخرين من المصالح الضيقة ما يبرر إصرارهم على تقاسمها -على نحو ما سبق- فما من مبرر قط يجعل مثل هذه المنظمات تقبل باستمرار تقاسمها واستخدامها كمجرد كلمة حق يراد بها باطل على هذا النحو بعد الآن! إذا ما أرادت أن تكون بحق كلمة حق تحمي حقاً، وليس مجرد كلمة حق يراد بها باطل.