إلى الصامتين من رجال المال والأعمال: أنتم الخاسر الأول والغائب الأخير.. إلى متى؟!

السياسية - Thursday 22 August 2019 الساعة 12:27 pm
نيوزيمن، كتب: أ.د/ حمود العودي

ومن الحديث عن الأخوة الأعداء في القبيلة المصطنعة؛ فالمعارضة الفاسدة العاجزة المتعاجزة، ثم منظمات المجتمع المدني الشريك المُرتَهَن المُغيّب؛ وصولاً إلى كل الألوان التي يزخر بها المشهد السياسي والوطني العام، والذي يتسع صدره اليوم حتى للغثاء من دعاة المناطقية والمذهبية والإمامية وتجار الدين والدنيا من دعاة الإسلام السياسي وغيرهم، وحتى القاعدة وداعش، والتي نُشرت هنا في "نيوزيَمن" بشجاعة مهنية ملحوظة؛ تبقى محل تقدير وجديرة بالاقتداء.

أما الحاضر الغائب -أو المغِيِّب لنفسه- في هذا المشهد فهم الصامتون من رجال المال والأعمال، والذين -أقلّهم في الوجود الاجتماعي- يتجاوز كل من سبق ذكرهم كمّاً وكيفاً؛ بما في ذلك السلطة والمعارضة، وأول جموع الأغلبية الصامتة -إلى جانب الشخصيات الوطنية العامة التي سنتحدث عنهم في رسالة لاحقة- هم رجال المال والأعمال والعمّال والفلاحون والسواد الأعظم من الرأي العام، والذي من الممكن اختصار مجموعهم في مسمى واحد هو المجتمع المدني "الصامت" رغم أنهم هم الأكثر تضرراً من الفساد والمفسدين في السابق والخراب والدمار اللاحق، وهم أصحاب المصلحة الأولى في ثورة تغيير وطني ديمقراطي سلمي شامل، والموضح حال الأهم منهم من رجال المال والأعمال في الآتي:

أولاً: رجال المال والأعمال هم الحلقة الأقوى في الواقع والأضعف في الدور

لن نذهب قط في التنظير التاريخي عن رجال المال والأعمال؛ أو البرجوازية والرأسمالية الوطنية؛ لأكثر من مجرد التذكير بالقليل عن الماضي من أجل حُسن فهم ورؤية الكثير عن واقع الحاضر بصفة عامة، واليمن بصفة خاصة فيما يتعلق بهذه الفئة أو الطبقة الاجتماعية والاقتصادية الأصيلة في ماضي وحاضر كل الأمم والشعوب الناهضة، فهذه الطبقة الثورية العظيمة التي بدأت في أوروبا القرن السادس عشر والسابع عشر؛ ممثلة بمجموع أصحاب الورش والمعامل والحرفيين والباعة المتجولين؛ الذين طالبوا بحرية العمل والتنقل تحت شعار (دعني أعمل دعني أمر) بعد أن أرهقتهم مكوس الإقطاعيات الأوروبية وأعاقت حركتهم حدودها الجغرافية المنتشرة في كل مكان، وقد قادها إيمانها بحق العمل وحرية الانتقال إلى الثورة ضد الإقطاع والكنيسة المهيمنة؛ التي لم تكن لتحتقر العمل وتصادر الحرية فحسب؛ بل وتجرّم العقل والعلم، الذي ارتكزت عليه البرجوازية الجديدة في عملها وحريتها، فكانت الثورة التي غيرت وجه التاريخ البشري حينما انتصرت البرجوازية الوطنية الأوروبية لحق حرية العمل والتنقل وحرية العلم والعقل؛ في مواجهة اللاهوت والكهنوت الكنسي، والاستعباد والظلم الإقطاعي، وانطلق بذلك عقال الحُريّة والعلم والمعرفة، مجَسّدا بحقائق ومنجزات الثورة الصناعية، التي تجاوزت حدود أوروبا إلى أنحاء المعمورة فيما بعد وحتى يوم الناس هذا.

وإذا كانت برجوازية أوروبا المنتصرة للحرية والعقل والعلم والعمل، قد تجاوزت حدود أوطانها إلى استثمار موارد وأسواق العالم وثرواته لصالح أوطانها وزيادة رخائها وتقدمها؛ في ما عُرِفَ بحركة الاستعمار القديم والمباشر، وصولاً إلى الهيمنة الامبريالية الحديثة غير المباشرة، فماذا عن"برجوازيتنا" أو "رأسماليتنا" الجديدة نحن في اليمن، وغير اليمن في الوطن العربي والعالم الثالث عامة؟ وأين تتشابه وأين تختلف هذه مع تلك؟ هذا ما يهمنا إيضاحه في الآتي:

التشابه والاختلاف بين "برجوازيتنا" المُتخلِّفة و"برجوازيتهم" الثورية.

ما من شك بأن معركة الصراع بين القديم والجديد التي خاضتها أوروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر هي ما تعيشه اليوم مجتمعاتنا النامية "ببرجوازيتها" الجديدة والمتنامية، والتي تتشابه مع برجوازية أوروبا القديمة في بعض الخواص الشْكليّة، وتختلف عنها في كثير من الخواص الجوهرية الأخرى وأهمها:

- أنها تتشابه مع برجوازية أوروبا القديمة في حُبِها للعمل والربح والثروة بأية وسيلة، وتختلف عنها -جذرياً- في كونها لم تتصد بعد لمعركة الحرية في الصراع ضد القوى القديمة من بقايا الإقطاع والقبلية والمناطقية والطائفية والظلامية وحتى العنصرية المتخلفة، والذي تتصدى له قوى جديدة "نعم" لكنها هامشية وغير طبقية أو غير ذات مصلحة استراتيجية حقيقية في التغيير، كالمؤسسة العسكرية حيناً، وطلائع المثقفين السياسيين الوطنيين والقوميين والتقدميين والإسلاميين أحياناً أخرى، وعلى العكس من ذلك.. كثيراً ما تميل "برجوازيتنا" أو "رأسماليتنا" المُشَوهة هذه؛ إلى تبعيّة القوى القديمة تلك، والخضوع لابتزازها، أكثر من ميلها إلى قيادة القوى الجديدة أو حتى التحالف معها، ناهيك عن أهمية قيادتها لها.

- أنها لا تعمل على استثمار وتنمية مواردها الوطنية في الداخل (صناعة، تجارة، تصدير إلى الخارج) كما فعلت برجوازية أوروبا، بقدر ما تعمل على العكس من ذلك: كمجرد وسيط تجاري في الداخل لخدمة الخارج، والإضرار بحرية وتنمية الاقتصاد الوطني الذي هو حريتها واقتصادها هي أكثر من من غيرها، فهي مُكمّلة للخارج ومرتبطة به أكثر من كونها حرة سياسياً واقتصادياً في الداخل، وقائدة له في التعامل المتكافئ مع الخارج والتحرر من تبعية وابتزاز القوى المتخلفة في الداخل.

أخطاء رأس المال الوطني اليمني في حساب الربح والخسارة

قد يبدو غريباً أن يُقال بأن رأس المال يخطئ في حساب الربح والخسارة؛ لكنها الحقيقة بالنسبة لرأسماليتنا الوطنية المُشوَهة حتى الآن؛ فيما يتعلق "بمحنة" الوطن الراهنة، لأنها الحاضر الأول في الخسارة والغائب الأخير في الدور، كما يتضح في الآتي:

رأس المال الوطني هو الخاسر الأول في محنة الوطن الراهنة

إن شاهد الحال الأول والمباشر على كل ما سبق في مجتمعنا اليمني هو دور رجال المال والأعمال الحاضر الأول في الخسارة الاقتصادية الغائب الأخير عن الدور السياسي والوطني بصفة عامة في محنة الوطن الراهنة على وجه الخصوص، والذي لا يستطيع أن يُنكره أحد، فمن يستطيع أن يُنكر أو يَتنَكّر لحقيقية: أن رجال المال والأعمال اليمنيين - في الداخل والخارج من حيث دورهم الاقتصادي وثقلهم الاجتماعي- هم الأهم في بناء الداخل، والأنجح في محيط الجوار العربي والدولي في الخارج؛ كماً وكيفاً، لأن ما لا يَقل عن "ثلاثة ملايين" إنسان في المهاجر العربية والعالمية؛ هم الأكثر احتمالاً وصبراً على المكاره، والإصرار على صُنْع الحداثة في حياتهم وحياة الآخرين في الداخل والخارج، إلى جانب الملايين الأكثر، من صغار ومتوسطي تجارة الجملة والتجزئة، وأصحاب المهن والحرف الصناعية والخدمية، في المدن الرئيسة والثانوية، ومُزارعيّ محاصيل السوق التجارية الحديثة المتنامية في الريف، وأن كل هؤلاء و -أولئك- هم بمثابة القوة الاقتصادية والاجتماعية الحديثة الأهم، وصاحبة المصلحة الأولى في الحداثة والدولة المَدنيّة المنشودة أكثر من غيرهم، وأنهم اليوم كما هم في الأمس هم الأكثر ضرراً وتضرراً من مخلّفات الماضي الرجْعيّة والقَبَلية ومؤسسات سلطاتها العسكرية والظلامية في الماضي البعيد والقريب، وهم دافعو ثمن فسادها وصراعاتها السياسية والدموية الراهنة، والتي لا يمكن النظر إلى -حالة الخراب والدمار الاقتصادي الوطني الراهن، والمِحَنْ المتتالية- إلا باعتباره خراب ودمار حقوق ومصالح هذه الطبقة الناشئة والأهم في المجتمع كطبقة وسطى لرأس المال الوطني الحديث، والحامل الرئيس والوحيد لمشروع الحداثة النهضوي والمدني الحقيقي والمنشود، فكم من شركات خاصة وعامة أفْلَست أو توقفت عن العمل! وكم من مشاريع لها تعطلت! وكم من مصانع ومعامل وورش ومتاجر أقفلت! وكم من خدمات عامة وخاصة أُجهَضت! وكم من أيادٍ عاملة سُرّحت! وأسر تشردت ومزارع هجرت ومساكن نسفت.... الخ! إنها خسارتهم بالدرجة الأولى؛ بقدر ما هي خسارة الوطن كله.

الخاسر الأول في حقه هو الغائب الأخير في دوره

ومع ذلك فطبقة "البرجوازية" الوطنية أو -رأس المال الوطني- هذا وقواه العاملة في الريف والحضر، هو الغائب الأول والمُغَيِّب لنفسه حتى عن المشهد السياسي والوطني الراهن منذ 2011م؛ بل وما قبل ذلك وحتى الآن، حيث برزت كل الألوان المُضيئة والمُظلمة، وتصاعدت كل الروائح العطرة، في مقابل العفونات الأكثر نتانة، وتيارات اليمين واليسار المدني والحزبي، في مقابل القبلية والطائفية والمناطقية وتجار الدين، وحتى الدعوات الإمامية والحق الإلهي، إلا هذه القوة الأهم من البرجوازية الوطنية ورأس المال الوطني بمختلف مكوناتها -المشار إليها آنفاً- الدافعة لأكبر "قسطاً" من الخسارة مع الشعب، والخارجة من كل مكسب أو دور يُذكر، لا في الماضي ولا في الحاضر، حتى في مُجرد التعبير عن نفسها وحقوقها المدنية كبشر في مسيرة التغيير الوطني الديمقراطي الشامل، إذ لم تكن هي موضع ابتزاز القوى المضادة المتمثلة في القبيلة والتيار الديني المتأسلم مع الأسف، ناهيك عن أهمية قيادتها لهذه الثورة، باعتبارها صاحبة المصلحة الأولى والأكبر في انتصارها والمتضرر الأول من فشلها ولا سمح الله، إذا ما استثنينا حميد الأحمر الذي انخرط بكل ثقله السياسي والمالي في خضم السياسة والسلطة بدءاً بالانتفاع والاستغلال غير المشروع للسلطة، مروراً بالخلاف السياسي معها، وانتهاءً بدعم ومناصرة أحداث 2011م، وهو موقف له دوافعه وأسبابه الشخصية، وأفقه القبلي والعائلي الضيق، فلماذا الصمت يا كل الباقين وأنتم الأكثر والأعرف والأكثر تضرراً وعرضة للابتزاز من قبل متنفذي الفساد سابقاً ولاحقاً؟ وإلى متى؟

أهمية المشروع "البرجوازي" الوطني النهضوي في اليمن

وفي ضوء هذا التشوه الخطير -وحلقات الضعف المميتة- في تكوين أقوى قوة اقتصادية واجتماعية جديدة في المجتمع اليمني وغيره من المجتمعات العربية والنامية؛ يكْمن سبب فشل وغياب المشروع النهضوي الثوري الحقيقي الحاسم للحرية والعلم والتقدم إلا ما ندر، وأن الميلاد الحقيقي لهذا المشروع سيظل رهناً بحركة هذا الكيان الأصل للحداثة والحاضر الأقوى في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والغائب الأضعف في الدور السياسي والوطني، والذي يرتكز على ثلاث دعائم أساسية هي:

بناء الذات اقتصادياً بالتحالف مع قوى التحديث الأخرى في المجتمع من النخب الوطنية والتقدمية والتكنوقراطية الحديثة من جهة، والتعامل النّدِي المتكافئ مع الخارج من جهة ثانية، بدلاً من مجرد التبعية له والعيش على فتاته.

والركيزة الثانية تتمثل في توطيد أوتاد القطيعة النهائية مع الماضي وقواه القبلية والظلامية والعسكرية المتخلفة، وحملها على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي معه في الحداثة والدولة المدنية الحديثة ولمصلحتها بالدرجة الأولى، بدلاً من الانسياق وراءها والاستسلام لابتزازها السياسي والاقتصادي والعسكري المُتَخلف الذي يضر بها وبغيرها من حيث تدري أو لا تدري.

أن تباشر -هذه القوى الاقتصادية والوطنية- الانتظام في مؤسسات سياسية ومدنية حزبية وغير حزبية؛ للتعبير عن نفسها، والدفاع عن مصالحها، والقيام بدورها الوطني المشترك مع غيرها من بقية المكونات السياسية والاجتماعية الوطنية على مستوى الوطن، وفي شكل أحزاب ليبرالية وعمالية وفلاحية، ودعم المنظمات المدنية الموازية من نقابات واتحادات وجمعيات صناعية وتجارية وعمالية وفلاحية مختلفة وفاعلة.