حسن البقط

حسن البقط

من إعلامي تهامي.. سيرة بداية

Wednesday 25 July 2018 الساعة 10:40 am

إليك... أيها الإعلامي النبيل، الذي استوحيت صفتك من خلال اسمك،
أكتب هذه العبارات التي ألخص فيها سيرتي الذاتية مع رفاقي الثلاثة الذين لا تختلف سيرهم عني.

منذ أول وهلة، وحين سقطت ضحية قضية تسمى الزواج لأبٍ وأمٍ تهاميين بائسين ربما ورثت منهما هذا البؤس الذي ستشهده في كل أحرفي...

كنت الطفل التاسع بعد أخٍ ولد ومات وليتني كنت مكانه لكي لا أخوض غمار الحياة اللعين.

التحقت بالابتدائية في مدرسة الفتح التي فتحت لي مصراعيها لأنهل منها العلوم والمعارف الممزوجة بموروث تربوي قذر جُبل عليه تعليمنا في اليمن.

كنت دائماً ما أحصل على درجة رفيعة وأصبح من الأوائل الثلاثة، في الصف السادس اكتشفت أن قلبي وقلمي ينبضان بمشاعر فياضة تجاه قطعة أرض تسمى اليمن، يتنازع عليها أرباب السياسة والحرب، وكنت أسمع من جدتي أن في زمانهم بلغ بهم الفقر والجوع مبلغه إثر حروب وحصارات خانقة، كتبت أولى قصائدي الممزوجة بالشجن. وشكلت وطني كما أحب أن أراه ويراه كل أبنائه، غير الساسة... دخلت في الإعدادية وبدأت طاقتي تخفت ويبهت بريقها بعد أن اصطدمت بواقع مرير للغاية. أو بالأحرى بعد أن بدأت أفكر بعقلانية.

سن المراهقة مرت مرور الكرام، ولم أنعم حتى بقبلة واحدة علّها ربما ستعيد تشكيلي من جديد وستطفىء في داخلي نيران هذا الواقع الكئيب...
لم أخرج من هذه الفترة سوى بمجموعة قصائد غزلية أتوهم فيها وأوهم رفاقي الحائرين مثلي بأن لنا قلوباً تنبض حباً..

ولانلبث بعد أن أقرأها عليهم إلا بسماع خبر يعيدنا لقبونا المظلم المسمى بكل برودة (الوطن السعيد). هذا الخبر قد يكون كذبة لعضو من أعضاء مجلس النواب الأشبه نظامه بنظام فصلنا في الصف التاسع والذي لم يرضَ أحدٌ منا أن يكون رئيساً له...
وصلت الثانوية أخيراً... وقد كنت والرفاق من رواد الطابور الصباحي المدرسي...
فقرات متنوعة في مختلف المجالات، ونقاشات لقضايا تعليمية كفيلة بأن تجعلنا في قائمة الراسبين...
تخرجنا، أخيراً، وبكل سلاسة كخطاب يلقيه وزير الإنسان والبيئة، في حفلٍ كرنفاليٍ مهيب.

بدا الواقع الآن أوضح بكثير من ذي قبل رغم أنَّا كنا نتطلع إلى كذبة تسمى (المستقبل) بكل شغف... توقف قطار التعليم أخيراً ووصلنا إلى مفترق الطريق...
أهدافنا التي بنيناها سوياً باتت أشبه برماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
للأسف، كنت المدلل الوحيد من أسرتي الذي تبنى عليه أحلام الأسرة البسيطة..
لم أكن كبقية أبناء القرية الذين اختلطت ملوحة دموعهم بملوحة البحر منذ الطفولة...
ولم تحتضن أناملي غير القلم المشحون بالمواجع... وياليتها احتضنت خيوط الصيد ومزقتها كي تخرس منذ نعومة أظفارها...
تقهقر الجميع وأعلن الخضوع للصمت المميت لفترة ليست بالقليلة.... انشغلنا كثيراً بمطالعة مئات الكتب في مختلف المجالات.... وخرجنا بفكرة تشكيل منتدى القطابا الأدبي الثقافي السياحي. مع بقية البؤساء من رفاقنا.

كنا نعقد جلسة كل أربعاء وندفع اشتراكات أسبوعية لتكوين حفلات وأمسيات ثقافية.... ولاندري أن الأعين تتهاوى علينا ككلاب تهاوت على جثة هامدة....
الأعين السياسية العمياء، كل يصنفنا لعدوه ويخلق لنا عداوات بلا مبرر.... بعد أن أحدقت بنا كلاب السياسة تم إجهاض المنتدى وكل القصائد والقصص والمقالات والرسومات التي كانت تتطرق لقضايا إنسانية نعيشها...
مجرد التفكير بإكمال الدراسة يصاحبه التفكير في المصير أين سأذهب بعد أن أدرس...؟
ومن سيدفع عني كل التكاليف...؟
وكيف سأدرس؟
الإعلام هو البوابة التي كانت نصب أعيننا، رغم عادات وتقاليد أبناء مجتمعنا... كل من سبقونا ومن استطاعوا أن يدرسوا سجلوا في الكليات التربوية والطبية...
ونحن الأربعة، وبعد أن بلغ بنا اليأس حولين متتاليين ولم نبلغ الفطام حتى الآن... ذهبنا للإعلام بكل طاقة وانكسار.
ليس لشيء سوى لإيصال قضيتنا المنشودة ومذهبنا الفكري المنبثق من أعماق أعماقنا...
وهو (الإنسان) بكل تفاصيله...
تم التسجيل، أخيراً، وتم اقتسام كسرة الخبز وشربة الماء سوياً...
لم نصدق بعد أن أبناء (القطابا) القرية التي يكسوها الوجوم... يدرسون حاملين في ملامحهم ملامح قريتهم الحزينة...
درسنا السنة الأولى ونحن نعاني مرارة تكاليف الدراسة وعدم توفر الإمكانيات...
حين كنا ننظر إلى أحدهم يضبط بكل كبرياء زوم كاميرته، كنا نصدر بكل تزمت فتوى تحريم الصورة... ليس لشيء سوى لأننا لا نمتلك كاميرا أو تلفوناً يعيننا على تصوير من يفترشون الوجع... فكرة جديدة حملناها على أكفنا، وأوراق قلائل نفثنا فيها جراحاتنا... كانت اسمها (رؤية).. مجلة شهرية متواضعة شارك فيها الكبير والصغير وعرضت فيها كل الأوجاع والآهات والأحلام والرؤى والتطلعات... وكان دعمها بإعلان عريض يتصدر أولى صفحاتها الأربع الفريدة من وجعها.. لصيدلية أو بقالة.. نحصل من خلاله على ثلثي مبلغ طباعتها.. بكل وضوح نحصل على ثلاثة آلاف ريال ونكمل الألفين من خلال دفع اشتراكات المشاركين فيها.. رؤية هي الأخرى واجهت مصير المنتدى الذي مات قبل أن يولد... وتبعته في شهرها السادس بعد أن كانت أصابع الاتهام لسماسرة القرية توجه إليها بأنها مدعومة من قبل (العدوان).. توصلنا أخيراً إلى حقيقة مؤسفة للغاية، وهي أننا لن نستطيع إطلاقاً ممارسة أي شيء بحرية في هذا الوطن، حتى الوجع الذي أهدتنا إياه الحياة، فأردنا أن نعيده إليها من خلال نشاطاتنا وجراحاتنا التي لم تسلم من التجريح...
الواقع اليمني حقير للغاية، كنا نذاكر جيداً بإخلاص قروي وعد وعداً لا يخلفه... وننصدم بدرجاتنا مقارنة بدرجات أصحاب المدينة وأصحاب النفوذ وذوي الوساطة والإكرام.

حتى أنا بدأنا ننفث أحلامنا ونمارس الجنون والوجع في نوتاتنا الدراسية،،،
توصلت أنا إلى معتقدٍ جازمٍ بأني (قطعة لحمٍ تالفة).
وتوصل جلال إلى أن اسمه (منهار).
وتوصل علي إلى أنه (جسد من دخان).
وتوصل قادري إلى أنه (بعض أجنةٍ لم تكتمل).
وآمن كل منا بفكرته وفكرة رفاقه...
وقد جاءت الحرب فآمنا أنها المخرج الوحيد لنا من هذه الحياة وواقعها المُر.
لأنها فرصة موصلة إلى الجنة ولو كانت كذبة إعلامية...
على غرار النار الذي يوصل إليها الانتحار العلني الذي بدأ يدبّ في خطتنا الجديدة،،،
حال بيننا وبين المشاركة في الحرب آباؤنا وأمهاتنا، ولا ندري لماذا هذا التشبث العقيم بنا؟!