أنور العنسي
للإنصاف "سعيد الجناحي".. الصحفي والمناضل الإنسان
مهمةٌ وباقية في الوجدان تلكم اللقاءات السريعة والنادرة التي تعرفت خلالها، في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، إلى الصحفي الكبير والسياسي الراحل الأستاذ (سعيد أحمد الجناحي).
ولا بد أن تلك اللقاءات جاءت متأخرة بالنظر إلى قِدَم المرحلة التي سبق أن استهل بها الجناحي نضاله السياسي في أواخر خمسينيات ذلك القرن، وذلك في خضم تحولات ومخاضات عسيرة شهدها اليمن قبل وبعد قيام ثورتي سبتمبر وأكتوبر.
محدودية لقاءاتي الأولى به كانت تعود إلى حضوره الإشكالي في صنعاء ممثلاً عن (الجبهة الوطنية) وإلى ذلك القدر من المخاوف والمحاذير التي كانت تلف بدايات حياتي في صنعاء كطالب جامعي وصحفي في مستهل عملي في صحيفة (الثورة) الرسمية والتلفزيون الحكومي المملوك للسلطة والمعبر عن سياساتها أكثر من كونه ملكاً للدولة اليمنية بما هي عليه من مكونات متعددة الرؤى والأفكار والانتماءات والمشارب.
ولعل أكثر من الهواجس التي كانت تحيط بها السلطة كل من يحاول الاقتراب من (الجناحي) منا نحن الشباب حينذاك ليس فقط الخوف من أن ينقل إلينا (عدوى) أفكاره التقدمية والانضمام إلى "تيار اليسار" كانت أيضاً علاقة القرابة من الدرجة الثانية بينه وبين القائد التاريخي لهذا التيار، عبدالفتاح اسماعيل، الأخ غير الشقيق لوالده أحمد إسماعيل الجوفي.
الجناحي أم الجوفي؟
وبالمناسبة، فما لا يعرفه كثيرون هو أن صفة (الجناحي) ليست اللقب العائلي ولا الاسم التنظيمي أو الحركي كما جاء في مذكرات الجناحي نفسه، بل تعود تلك الصفة لأستاذه الذي أحبه المرحوم سعيد وأطلق لقبه على نفسه وفاءً لهذا المعلم، بحسب ما أكدته الدكتورة جميلة الجناحي ابنة الأستاذ سعيد.
ومن طريف ما أتذكره أنني كنت عندما ذهبت ذات يوم إلى فندق (المخا) الشهير في شارع الشهيد علي عبدالمغني في صنعاء حيث كان يقيم أحياناً عند مجيئه من عدن، التقيت الجناحي الذي كان يعمل حينذاك على إصدار صحيفة (الأمل) لتكون بمثابة لسان حال "الجبهة الوطنية"، كان الرجل قد أصبح محاطاً بعنصر أو اثنين من رجال الأمن الذين يلازمونه مثل ظله، وقد تأثر أحدهما به، وأصبح محباً للصحافة وللأدب والأدباء حتى آخر يوم من حياته.
حملت صحيفة (الأمل) معها الأمل في الاطلاع على صوت مختلف في السياسة والثقافة وحتى الرياضة وشؤون اجتماعية أخرى برغم صعوبة عملها في مناخ أمني وسياسي شديد التوتر.
ومع ذلك فقد كانت صفحاتها الثمان تقدم وجبة متنوعة من الأخبار والقضايا إلاَّ أن تلك الأخبار كما يقول الأستاذ عبدالباري طاهر "كانت شحيحة بسبب الحصار، وغياب حرية الرأي والتعبير، ومصادرة الحق في الحصول على المعلومات، وتخويف الناس من الصحيفة كناطقة بلسان الجبهة الوطنية، ووصمها بأنها صحيفة “المخربين”، ومع ذلك، فقد كانت الأمل صحيفة رأي بالأساس".
غير أنني كنت شغوفاً بقراءة أغلب الموضوعات السياسية والثقافية والاجتماعية التي تتناولها صحيفة الجناحي، وسواها من القضايا بما فيها تلك المقابلات التي كانت تنفرد بنشرها مع شخصيات سياسية يسارية لم يكن الوصول إليها حتى خارج صنعاء متاحاً أو حتى محمود العواقب!
ليس ذلك فحسب لكن الصحيفة أتاحت الفرصة وللمرة الأولى وعلى نطاق أوسع للتعرف من خلال مقابلات (غير نمطية) على قيادات سياسية معارضة وشخصيات أخرى بارزة، ومفكرين وأدباء كبار، يمنيين وعرب، لم تكن الصحف الرسمية وحتى بعض العربية وقت ذاك تحفل أو تهتم بتقديمهم للقراء.
ذلك فضلاً عن انفتاح (الأمل) على طرح قضايا وحوارات سياسية وفكرية لم يكن غيرها يجرؤ على تناولها ومنها على سبيل المثال العلاقة المتوترة على الدوام بين شطري البلاد إلى جانب موضوعات تتصل بما يدور في محيط اليمن من أحداث وتطورات، مما لا يجد القارئ والباحث المهتم نظيراً له في الإعلام الرسمي وصحفه السيارة.. المتشابهة حتى التطابق في كل شيء باستثناء (الترويسة) التي تعلو الصفحة الأولى لكل منها.
ومع أن (الأمل) لم تكن تخفي هويتها كصحيفة يسارية معارضة إلاَّ أنها أفسحت المجال واسعاً أمام أقلام عديدة للكتابة فيها بما يتسع أو يضيق قليلاً في خطها التحريري وخطابها السياسي الملتزم ببرنامج عمل الجبهة الوطنية.
في ثنايا المجلدات التي وثقت لأعداد الصحيفة ما يجعل المتصفح لها يعيش أجواء تلك المرحلة أو الحقبة المهمة من التاريخ السياسي والاجتماعي لليمن، ويقرأ كذلك الخط البياني لمسار التطور الذي عرفته تجربة العمل الصحفي عموماً.
مما عرفته عن الجناحي أن ما كان يحمد له ويخشى عليه منه في آن واحد هو إيمانه بقناعاته وتشبثه بما آمن به من مُثُلٍ وقيمٍ، كانت المجاهرة بها في ذلك الوقت تشكل خطراً على حياته، ليس هذا فحسب بل في أنه ترجم هذا الالتزام عبر مجازفات عدة كان أبرزها ضلوعه طوعاً وبمبادرات منه في ربط حركة المقاومة ضد الاحتلال البريطاني في جنوب البلاد بعدد من الضباط الشباب الذين كانوا قد أخذوا في التخطيط لاسقاط "الإمامة" في شمال البلاد، حيث يذكر الباحث الكبير د. علي محمد زيد أن الجناحي "تولى دون تردد أو خوف نقل المعدات المدنية والعسكرية والأسرار إليهم في صنعاء لمساعدتهم في تحقيق النجاح، تحت غطاء عمله في شركة الطيران اليمنية".
يعنيني القول في نهاية هذه الشهادة عن الجناحي أن مرحلة الإحباط التي لاحظتها عند الرجل لم تكن لتبدأ فقط عند مقتل عمه "عبدالفتاح" خلال كارثة الثالث عشر من يناير 1986 لكنها تراكمت لديه من خلال تحفظه، الذي لم يعلن عنه، على الطريقة التي تم بها الاستعجال في التوحيد الفوري لشطري البلاد في الـ22 من مايو 1990 بل إنه بدا رغم ذاك مبتهجاً بهذا الانجاز التاريخي مهما كانت الأخطاء التي رافقت تحقيقه.
لكن الجناحي كان مثل آخرين قلائل غيره آمن بعد حرب العام 1994 بأنه ربما لا بد من التسليم بحقائق الواقع كما هي وإن لم يكن بالضرورة الموافقة عليها ومسايرتها.
لقد أحسست بمعاناته العميقة وأنا بعيد عنه في لندن خصوصاً في سنواته الأخير، بل سنوات اليمنيين العجاف جميعاً.
وفي ظني أن عدم التحاقه برفاقه الذين غادروا البلاد إلى المنفى كان سبباً في بعض المآخذ عليه التي تسببت في معاناته ودخوله في ما يمكن اعتباره حالة من الاكتئاب والعزلة والانكفاء على الذات حتى وفاته.
له الرحمة والخلود في دار الخلود.
* من صفحة الكاتب على الفيسبوك