د. عبد العزيز المقالح

د. عبد العزيز المقالح

مع أناس استثنائيين

Wednesday 22 July 2020 الساعة 08:14 am

في كتابه المهم (لقاءات مع أناس استثنائيين) يتناول المفكر الهندي أوشو بالإكبار والإعجاب ملامح من حياة المتصوفة العربية رابعة العدوية، وينظر إليها باعتبارها واحدة من المفكرين العالميين الذين وضعوا خرائط واضحة المعالم لحياة لا يعوزها التنظيم ولا ينقصها الترتيب.

في الكتاب؛ يشير أوشو إلى ملمح مهم في حياة رابعة قائلاً: (ذات مساء بينما كانت الشمس تميل إلى الغروب، كانت رابعة تبحث عن شيء أمام منزلها.. تجمهر عدد من الناس حولها متسائلين: هل أضعت شيئاً يا رابعة؟ لربما بمقدورنا تقديم المساعدة).

قالت(لقد أضعت إبرتي.. كنت أخيط ثوباً وسقطت من يدي، وها أنا أبحث عنها ولم يعد الوقت كافياً، فقريباً ستغرب الشمس ويحل الظلام.. لذا، إن أردتم مساعدتي فما عليكم إلا الإسراع، لئلا تستحيل عليكم مساعدتي بعد حلول الظلام).

هكذا شرع الكل في البحث عن الإبرة، والإبرة التي حتى في وضح النهار تصعب رؤيتها بين هذا التراب، فكيف عند وقت الغروب. 

وقف أحدهم وقال: (الإبرة جسم صغير، والشمس آخذة بالأفول، فرجاءً حددي لنا المكان الذي فيه أضعت الإبرة حتى نتمكن من إيجادها). 

فضحكت رابعة وقالت: (ولماذا هذا السؤال.. إنه يزعجني ويسبب الإرباك)، توقف الجميع عن البحث: (ما الأمر؟ ولماذا تقولين إننا نزعجك؟)، (أحس بالإزعاج، لأني أضعت إبرتي داخل منزلي وليس هنا، ولكن بما أنه لا ضوء داخل المنزل، خرجت إلى حيث الضوء لأبحث عنها). 

(يبدو واضحاً أن مسّاً من الجنون أصابك) قال الذين تجمهروا لمساعدتها.. (كنا نشك في ذلك سابقاً.. أما اليوم، فقد قدمت لنا الدليل على أنك مجنونة فعلاً).


لقد غاب عن هؤلاء المعنى الكبير الذي يتجلى وراء هذا الحدث، فقد كانت تثبت به أنه حيث يوجد النور توجد الأشياء التي نبحث عنها. 

ومن المؤكد أن وجود رابعة في كتاب ضمن هؤلاء الاستثنائيين يعني أن المرأة العربية لها وجود حقيقي فعلي في الحياة وفي الفكر، وأنها ليست إنساناً عابراً يجتاز الحياة دون أن يترك خلفه أثراً مهماً، وأن التخلف الذي أصاب واقع المرأة كان نتيجة عوامل أصابت المجتمع وجعلته يتراجع وينكفئ ويفقد استمرارية نموه وتطوره.

إن وجود شخصيتين عربيتين هما شخصية رابعة وشخصية جبران خليل جبران دليل عالمي على نجاح الفكر العربي بأبعاده الصوفية والواقعية. 

ومن حقنا كعرب أن نعتز بهذا الاختيار وندفع بالمجتمع إلى التأثير والخروج من الدائرة الضيقة والانكسار المتوالي.

 ومن المهم أن ندرك أن رابعة في الماضي، كما هو جبران في الحاضر، قد مثلا هذا التنامي، وأكدا ضرورة التواصل وحضور المرأة والرجل على حدٍّ سواء.


 فالمجتمع كما هو معلوم، لا يسير على قدم واحدة، ولن يتحقق التطور الصحيح إلا في وجود كل من المرأة والرجل.

ومن يتابع الكتابات الفكرية في العالم القديم وفي الوقت الراهن، لا يكاد يجد للصوت العربي مكاناً، نتيجة، لما سبقت الإشارة إليه، من تخلف الواقع وانكسار حركة التأثر والتأثير. وربما وجد المتفائلون في الواقع الراهن بعض الملامح المؤشرة إلى حالة من التغيير المفيد والمأمول، فقد ازدهرت ملامح التجدد في الرؤى لدى عدد من الشباب الذين يحلمون بزمن جديدٍ ومتغيرات فاعلة على طريق المستقبل الواعد، وظهور شخصيات استثنائية من بينهم.

 فلا أمل في غير الشباب باعتبارهم المستقبل في أجلى تمثلاته، وهم علامة في الحياة، ومن دونهم تبقى الحياة راكدة وواقفة في مكانها.

 ونظرة واحدة إلى الشعوب الناهضة تجعلنا ندرك دور الشباب في حياة هذه الشعوب، وكيف أنهم يتقدمون التحولات ويقودونها، وكلما وهن المجتمع وأدركه شيء من الضعف، استدعى شبابه فاستجابوا وقادوا موكب التطور بقوة وتصميم.

أن مجتمعاتنا العربية، كما سبقت الإشارة، أحوج ما تكون إلى قادة استثنائيين يحملون راية التجديد والتغيير ويقاومون حالة الضعف، علماً أن أوضاعنا العربية قد وصلت في أكثر من مكان إلى درجة لا تكاد تصدق من الهوان والضعف. 

وهنا يأتي دور الشباب، وليس غيره من الفئات، فهم القوة الاستثنائية التي نعتمد عليها ونثق في دورها، وإذا لم يقم الشباب بهذه المهمة فأية فئة من فئات المجتمع سوف تقوم بها؟

الشباب إذاً هم الاستثنائيون، ومن حقنا أن نثق في أنهم قادة التغيير نحو الأفضل والأجمل، ولا خلاص لنا بلا دور يتحمل أعباءه الاستثنائيون أبناؤنا وبناتنا. وأتوقف هنا عند الإشارة إلى كلمة (بناتنا) لكي أؤكد أن دور المرأة مطلوب وضروري، فهي الأم والمربية والقائدة الاجتماعية. وكم هو صحيح ذلك التعبير السائد (الأم مدرسة إذا أعددتها//أعددت شعباً طيب الأعراقِ).

 والعكس صحيح تماماً، فإذا لم تكن الأم مدرسة قادرة على تربية الأجيال وتوجيهها الوجهة الصحيحة فإن هذه الأجيال تنشأ خاملة وعاجزة. 

ومن هنا فإن للأم دورها القائد والموجه، ولا مفر من الاعتماد على الأجيال الجديدة لما تمثله من حيوية وقدرة على الابتكار والاختيار.

وإذا ما عدنا إلى الكتاب موضوع هذه الإشارات، فسوف يقدم لنا أكثر من دلالة على قدرة الإنسان الاستثنائي على قيادة التحول والاقتداء بما وصلت إليه شعوب وجدت في أبنائها الاستثنائيين من ينتشلها من قاع الفقر والضعف إلى عالم القوة والغنى. 

وقد سبق لي أن ضربت المثل بالصين واتخذتها، أكثر من مرة، نموذجاً للشعوب التي خرجت من أزماتها المتعددة، وحققت في سنوات قليلة ما نراه الآن.. 

وما يثير إعجابنا ويبعث الأمل بأن الفترة الراهنة في طريقها إلى الزوال، ولا ننسى أن كثيراً من المتشككين في إمكان نهوض الشعب الصيني قد كانوا ينظرون إلى العدد الكبير الذي يمثله سكان هذه البلاد، لكن الأيام أثبتت أن زيادة السكان ليست عبئاً، ولكنها قد تكون وسيلة إلى القوة إذا أحسنت القيادات الاستثنائية اختيار الطريق الصحيح.

* نقلاً عن مجلة الشارقة الثقافية