د. عيدروس نصر

د. عيدروس نصر

تابعنى على

الحكومة المشروخة

Saturday 27 March 2021 الساعة 07:30 am

كشفت الاحتجاجات التي شهدتها عدن وأبين وحضرموت وشبوة ولحج في الأيام القليلة الماضية عن حالة من التسطيح والتجويف المخطط والممنهج للخطاب الإعلامي لدى الكثير من المنابر الإعلامية الحزبية وغير الحزبية، اليمنية والخليجية.

إنني لا أتحدث عن ذلك المعتوه الذي ظهر على إحدى القنوات التلفزيونية ليقول لمتابعيه إن عدن صارت أفضل من الرياض وأن الحكومة غير معنية بدفع الرواتب للموظفين ولا بالكف عن سياسة التجويع وحرب الخدمات، وأن على الجنوبيين أن يذهبوا ليموتوا في مأرب، فمثل هذا ينبغي أن يعرض على طبيب أمراض عقلية وليس على محطة تلفزيونية، بل إنني أتحدث عن قنوات فضائية وصحف ومواقع إعلامية وكُتَّاب ومثقفين ونفترض أنهم معتبرون لهم جمهورهم ومتابعوهم الذين يجب أن يؤخذوا بالحسبان، بغض النظر عما إذا كنا نختلف أو نتفق معهم.

الأحداث كشفت لنا مجموعة من الحقائق المؤسفة التي لا تنبئ بأن الأمور ستسير باتجاه الانفراج لا في الجنوب ولا في الشمال، ومن هذه الحقائق:

1- إننا أمام حكومة مشروخة إلى حكومتين: حكومة تعمل على الأرض وتمارس نشاطها، بفعالية أو بعدم فعالية لكن من داخل العاصمة عدن، وهي المناط بها تنفيذ المهمات الواردة في اتفاق الرياض وتلك المهمات هي أصلاً تقع على أي حكومة كانت، كما في كل بلدان العالم، لكن هذه الحكومة لا تملك من أدوات القيام بمهماتها وتنفيذ وظائفها إلا المكتب والهاتف، والأوراق وربما الختم.

وقد قال لي زميل من المقربين من مجلس الوزراء إن الحكومة لا تستطيع التوجيه بصرف مبلغ لشراء جهاز للتشخيص بالرنين المغناطيسي MRI ولا تسديد كلفة علاج عشرة جرحى من المقاتلين الذين يواجهون الحوثيين في الضالع وكرش والصبيحة ومكيراس، ولا حتى مأرب وتعز وحجة.

كما لا تستطيع تشغيل محطات الكهرباء لعدن وحدها ست ساعات متواصلة في اليوم والليلة. 

2- حكومة أخرى خفية لا توجد في عدن ولا حتى في مأرب أو تعز أو سيئون، بل إنها تتوزع بين الرياض وإسطنبول وأماكن أخرى منذ ست سنوات، وهي من يتحكم بالموارد وبمخرجات السياسة وصناعة القرار.

والفريق المكون لهذه الحكومة الخفية هو الذي كان قد عبر عن اعتراضه على تشكيل هذه الحكومة وعلى اسم رئيسها بل وعلى مضمون اتفاق الرياض الذي تشكلت بموجبه الحكومة، من خلال حملة التشهير والتشويه ضد رئيس الحكومة وضد تشكيل الحكومة من الأساس.

وهذه الحكومة (الخفية) هي من يسعى بكل ما تمتلك من سطوة ونفوذ وأدوات لتعطيل أي سبب يمكن أن يساعد الحكومة (المعلنة) في تحقيق أصغر النجاحات.

لسنا معنيين لا بالدفاع عن رئيس الوزراء ولا حتى عن الوزراء بما في ذلك الزملاء الذين نعرفهم حق المعرفة ونثق في نزاهتهم وكفاءتهم ومهاراتهم القيادية، لكننا نقول الحقيقة التي صارت مرئية لكل ذي عينين، وهي أن الحكومة (المعلنة) التي في عدن هي في طريقها إلى الفشل من خلال وضعها وجها لوجه أمام ملايين المطالبين بحقوقهم المشروعة التي يفترض أن يحصلوا عليها في مواعيدها الروتينية دونما حاجة حتى إلى رسالة تذكير، وليس إلى مسيرة احتجاج ومظاهرة وإضراب، بينما هي عاجزة عن الاستجابة لهذه المطالب لأن وسائل تحقيقها ليست بيدها بل بيد الحكومة الخفية المسترخية في الرياض وإسطنبول وباقي مدن الدنيا.

3- إن الكثير من الإعلاميين والسياسيين المتحايلين والمتحاذقين، يتعمدون عزل النتيجة عن السبب، ونحن نتحدث هنا عن فعاليات المتقاعدين العسكريين في عدن، فقد حول هؤلاء (المتحاذقون) ما يسمونه بــ"اقتحام قصر المعاشيق" إلى (مشكلة) وراحوا يبحثون عن حل لهذه (المشكلة)، التي هي أصلا لا (مشكلة) ولا حتى عَرَض من أعراض أية (مشكلة)، لكنهم يتحاذقون معتقدين أنهم سيرهبون أصحاب المطالب المشروعة بتتويههم عن حقوقهم، واتهامهم بجريمة "الاقتحام" المفتعلة، وتجاهل الجرائم الحقيقية المتمثلة في تجويع الشعب والسطو على المرتبات ونهب الموارد وتعطيل الخدمات والتغافل عن نشاط الجماعات الإرهابية وعن استخدام الرصاص الحي ضد المسيرات السلمية كما جرى في سيئون الأسبوع قبل الماضي. 

 وبدلا من محاسبة المتسبب بكل هذه المشكلات -الجرائم، ظهر من يقول إن الحل هو تنفيذ الشق العسكري من اتفاق الرياض. 


ومن الطبيعي أن لا أحد يعترض على تنفيذ هذا الشق من الاتفاق، مع الإشارة إلى أننا نفهم هذا الشق على أنه يعني حشد كل الطاقات والقوى المادية والبشرية لمواجهة الحوثيين في جبهات التماس، وهناك من يفهمه على أنه يعني نقل الفيالق والمعسكرات الشمالية من جبهات القتال والصحاري والفيافي إلى عدن وأبين ولحج والضالع، حتى لو أدى هذا إلى سقوط مأرب وتعز وكل الشمال بيد الحوثيين كما سقطت الجوف ونهم والبيضاء وصرواح وعتمة وحجور، لكن السؤال هو: حتى لو سلمنا بتفسيرهم لتنفيذ هذا البند، فهل وجود القوات الشمالية في عدن سيؤمن الناس من خوف، وسيطعمهم من جوع؟

 وهل هذا سيضمن دفع مرتبات الموظفين المدنيين والعسكريين بمن فيهم المتقاعدون، ليستقبلوا شهر رمضان بثقة بأنهم سيستطيعون توفير قيمة الشربة والسنبوسة؟

 وهل سيوفر الطاقة الكهربائية ومياه الشرب النقية ويوفر الدواء ويقضي على الوباء؟.

وهل سيعيد الخدمة الطبية المجانية من خلال مستشفيات الحكومة التي ظلت تقدم هذه الخدمة كاملة متكاملة ولكل أبناء الجنوب حتى صبيحة 22 مايو 1990م؟.

وضع الحكومة المشروخة يصنع ثقافة مشروخة وإعلاماً مشروخاً ومشوهاً ومخادعاً لا هم له إلا إدانة الضحية والدفاع عن الجلاد، وتبرئته والإشادة بجرائمه واعتبارها منجزات وطنية تسمو إلى درجة المعجزات.

ولله في خلقه شؤون.

*من صفحة الكاتب على الفيسبوك