هيئة المواصفات في صنعاء.. من جهاز رقابي إلى خياطة مالية على مقاس الفساد الحوثي

الحوثي تحت المجهر - منذ ساعتان و 34 دقيقة
صنعاء، نيوزيمن:

في بلد يرزح تحت وطأة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والاقتصادية في العالم، تتحول بعض المؤسسات التي يُفترض أن تكون حارسة للمعايير الرقابية والمهنية إلى أدوات للعبث الممنهج والفساد المنظم. وفي مناطق سيطرة جماعة الحوثي، حيث تنهار الهياكل الإدارية وتغيب الرقابة، برزت هيئة المواصفات والمقاييس في صنعاء كنموذج صارخ لهذا الانحراف المؤسسي، بعد أن حوّلتها قيادات حوثية نافذة من جهاز رقابي فني إلى مظلة رسمية لتقنين الجبايات، وتوزيع المال العام على أسس فئوية ومحاباة.

لم تعد الهيئة، كما يصفها ناشطون ومراقبون، مؤسسة تُعنى بضبط الجودة والمعايير، بل أداة لإعادة تعريف "الفساد" كمعيار جديد، حيث تُفصّل اللوائح المالية على مقاس الجيوب، وتصرف الحوافز خارج أي إطار قانوني، في مشهد يعكس حجم التآكل المؤسسي والانفلات المالي في واحدة من أبرز المؤسسات المفترض أن تحمي المواطن من الغش والتلاعب لا أن تمارسه من الداخل.

وخلال العامين الماضيين، ظلت الهيئة تُسيّر لوائح صرف غير قانونية، وفق ما تكشفه وثائق رسمية، صرفت بموجبها مكافآت وحوافز ضخمة تفوق حتى ما هو مكتوب داخل تلك اللوائح نفسها، حسب ما أكده الناشط في الجماعة طه الرزامي، الذي نشر مجموعة من الوثائق الرسمية على صفحته في فيسبوك، كاشفًا عن عبث مالي يجري تحت مظلة هيئة يُفترض بها أن تضبط الجودة لا أن تختل معاييرها بهذا الشكل الصادم.

وقد فجّرت اللائحة الجديدة للحوافز، التي تم تسريبها مؤخرًا، موجة من الغضب والاستنكار، حيث كشفت عن زيادات فلكية في مكافآت كبار الموظفين الحوثيين، واحتواءها على بنود تم تفصيلها لتمكين المقربين من قيادة الهيئة من استنزاف المال العام بشكل قانوني ظاهريًا، لكنه مجحف واقعيًا.

وأفادت مصادر أن هذه اللائحة تم تمريرها سرًّا دون العودة إلى الوزارة المعنية أو اللجان المالية الرقابية، وتم فرضها بأثر رجعي منذ بداية العام الجاري، ما يعني صرف مبالغ ضخمة غير مبررة وسط أزمة اقتصادية خانقة.

وقال الرزامي في منشور أرفقه بالوثائق: "هل نحن في دولة مؤسسات، أم في خياطة تفصيل؟! لائحة مالية 'مصنوعة على المقاس'، صدرت من داخل الهيئة وليس من فوقها، لا توقيع رئيس مجلس الإدارة، ولا حتى ختم مواطن عابر أمام الهيئة! ومع هذا، اشتغلت اللائحة سنتين كاملتين كأنها من وصايا الدستور، تُصرف من خلالها الحوافز والمكافآت كأننا في موسم توزيع غنائم!".

وأضاف: "السؤال البسيط: من الذي سمح لجهة أن تكتب وتختم وتقبض لنفسها... وباسم الدولة؟! المدير الجديد، الذي كنا نأمل أن يُغلق دفتر الماضي، إذا به يفتح الدفتر ذاته ويضيف عليه ملحق جديد بعنوان: اصرف وخليها على الله!".

الرزامي، وهو أحد الناشطين البارزين في الجماعة، وصف المشهد بعبارات حادة، مؤكدًا أن "الصرفيات الحالية تتجاوز حتى ما كُتب في اللائحة المشبوهة، بمعنى أن العبث لم يتوقف بل توسّع وأعيد تغليفه تحت إدارة جديدة". وتابع: "نحن لا نتحدث عن إشاعات في استراحة موظفين... بل عن وثائق رسمية، مكتوبة، موقعة، ومختومة، تؤكد أن المال العام يُتعامل معه كأنه ملكية خاصة في وليمة موسمية".

وختم منشوره بالقول: "هيئة يُفترض بها أن تضبط المعايير والمواصفات، فإذا بها تُفصّل اللوائح والمكافآت بمعايير المزاج ومواصفات المحاباة، وكأنها تضع ختم الجودة على الفساد لا على المنتجات... هل ننتظر حتى تصبح اللوائح الفاسدة تراثًا إداريًا؟ أم نتحرك قبل أن يصبح العبث هو المعيار الوحيد المعتمد رسميًا؟".

وفي ظل هذا السخط المتزايد، تتجه قيادة الهيئة إلى تصفية الأصوات المعارضة داخليًا، حيث أحالت الموظفة والناشطة صفاء عقبة إلى التحقيق بتهمة تسريب اللائحة، رغم أن من نشرها فعليًا هو الناشط طه الرزامي. واستنكر ناشطون وحقوقيون هذا التصرف، معتبرين أنه محاولة لإسكات موظفة كانت شاهدة على الفساد، بدلًا من التحقيق مع المسؤولين الحقيقيين عن وضع اللوائح غير القانونية وصرف الأموال العامة بلا وجه حق.

تتزايد الدعوات اليوم إلى فتح تحقيق شامل ومحايد في أعمال هيئة المواصفات والمقاييس، ومحاسبة كل من تورط في عمليات صرف غير قانونية، وسحب كافة اللوائح التي تم تفصيلها خارج الأطر المؤسسية. كما طالب موظفون وحقوقيون بإلغاء إحالة صفاء عقبة، وإعادة تقييم الهيكل المالي والإداري للهيئة.

ويشير نشطاء وموظفون سابقون في الهيئة جرى تهميشهم وإقصائهم من وظائفهم إلى أن هيئة المواصفات لم تعد تقوم بدورها الأساسي في حماية المستهلك وضبط الجودة، إذ تم التغاضي عن آلاف الشحنات من السلع المغشوشة والمهربة التي دخلت السوق اليمنية خلال السنوات الماضية مقابل "عمولات" تدفع تحت الطاولة. كما يتم التغاضي عن فحص الكثير من البضائع المستوردة إذا كانت تابعة لتجار محسوبين على الجماعة.

وأكدوا أن “الهيئة أصبحت مرتعًا لتصفية الحسابات والثراء غير المشروع، ولم تعد تمثل أي دور رقابي فعلي على الأسواق”.