احتجاز الرهائن بصنعاء.. الحوثيون يستنسخون أسلوب طهران في مواجهة أزماتهم
السياسية - منذ 3 ساعات و 19 دقيقة
أمام الضربات الإسرائيلية الموجعة التي طالت حكومة الحوثيين في صنعاء وأربكت بنيتها، لم تلجأ الجماعة إلى رد عسكري مباشر كما كانت تزعم في خطاباتها، بل اختارت أسلوباً إيرانياً تقليدياً يكشف مأزقها المتصاعد وهذا الأسلوب يتمثل في احتجاز الرهائن.
فبدلاً من مواجهة خصمها عسكرياً، اتجهت إلى اعتقال 18 موظفاً تابعين للأمم المتحدة خلال الأيام الماضية، واقتحام مقرات أممية في صنعاء، لتوجه إليهم تهمًا جاهزة بـ"التجسس لصالح إسرائيل". هذه الحملة جاءت بعد أن أعلنت الأمم المتحدة رسمياً أن الحوثيين صعّدوا من اعتقالاتها لتشمل موظفين من عدة وكالات، بينهم من يعملون في برامج إنسانية وصحية وإغاثية لا علاقة لها بأي أنشطة سياسية أو عسكرية.
ويرى عدد من المحللين والكتاب أن لجوء الحوثيين إلى احتجاز موظفي الأمم المتحدة يعكس حالة من الإفلاس العسكري والسياسي أكثر من أي رسائل قوة تُراد إيصالها. وتشير هذه الخطوة إلى أن الجماعة لم تعد قادرة على الرد العسكري أو السياسي بفعالية على الضربات التي تستهدف بنيتها في صنعاء. ويشدد محللون آخرون على أن هذا النمط من التوتر الممنهج ضد الأمم المتحدة هو مؤشر واضح على أن الجماعة باتت تعاني عزلة متزايدة داخلياً وإقليمياً، وأن خطوات مثل هذه تُثبت وصول مشروعها إلى مفترق طرق. ويمكن في هذه المرحلة وصف الخطوة بأنها "بداية العد التنازلي" لمشروع الحوثيين في اليمن.
أسلوب إيراني بامتياز
وتشير المعطيات إلى أن هذه حملة الاختطافات الحوثية ليست مجرد إجراء أمني داخلي، بل محاولة واضحة لاستخدام الموظفين كأوراق ضغط وابتزاز سياسي، في استنساخ مباشر لنهج طهران منذ عام 1979 حين احتجزت موظفي السفارة الأميركية في طهران لمدة 444 يوماً. وكما سعى النظام الإيراني آنذاك لتحويل أزمة سياسية إلى ورقة تفاوضية مع الغرب، يسعى الحوثيون اليوم إلى استخدام حياة المدنيين والعاملين الإنسانيين كأدوات مقايضة مع المجتمع الدولي، في لحظة فقدوا فيها القدرة على المناورة العسكرية أو السياسية.
لم يكن احتجاز الموظفين الدوليين في صنعاء مجرد رد فعل عابر على الضربة الإسرائيلية، بل يعكس تقليداً إيرانياً راسخاً في تحويل الأزمات إلى أوراق تفاوض وابتزاز سياسي. فكما استخدم النظام الإيراني حادثة اقتحام السفارة الأميركية لفرض نفسه لاعباً أساسياً على المسرح الدولي، وأدار ورقة الرهائن حتى أطلقهم بعد وصول رونالد ريغان إلى البيت الأبيض، يسعى الحوثيون اليوم إلى استنساخ التجربة ذاتها ولكن في سياق مختلف.
فالجماعة، التي فقدت قدرتها على المبادرة أو الرد العسكري، تحاول عبر اعتقال موظفين أمميين وتوجيه تهم التجسس لهم أن تخلق أزمة جديدة تشغل المجتمع الدولي وتعيد خلط الأوراق. وبذلك، يتحول المدنيون والعاملون الإنسانيون في اليمن إلى أدوات مقايضة، في وقت يشهد البلد واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
ويُخشى أن تكون هذه الخطوة مقدمة لابتزاز مباشر للأمم المتحدة والمانحين الدوليين، سواء عبر المطالبة بوقف الضغوط السياسية والحقوقية على الجماعة أو عبر الحصول على تنازلات اقتصادية، مثل تسهيل تدفق الأموال والوقود إلى مناطق سيطرتها. هذا النهج يضع ملايين اليمنيين في قلب معادلة الابتزاز، حيث يمكن أن تؤدي أي إعاقة لعمل المنظمات الدولية إلى حرمان عشرات الآلاف من الأسر من المساعدات الإنسانية التي تمثل شريان حياتها الوحيد.
إفلاس عسكري وسياسي
تكشف حملة اختطاف الموظفين الأمميين في صنعاء عن حالة إفلاس سياسي وعسكري لدى الحوثيين، إذ أن الجماعة لم تعد قادرة على مواجهة الضربات الموجعة التي تلقتها، خاصة الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت حكومة الحوثيين وأربكت بنيتها القيادية. هذا النقص في القدرة على الرد المباشر دفعها إلى اتباع نهج ابتزازي يعتمد على الرهائن، محاولةً تعويض ضعفها على الأرض من خلال استغلال موظفي الأمم المتحدة كورقة ضغط دولية.
ويبرز هذا السلوك نموذجاً متكرراً لتكتيكات إيران في المنطقة، حيث يتم استثمار الأزمات الداخلية للضغط على المجتمع الدولي أو لتحقيق مكاسب سياسية. بالنسبة للحوثيين، فإن هذا الأسلوب يعكس إقراراً ضمنياً بفشل مشروعهم التوسعي، وعجزهم عن الحفاظ على الاستقرار أو ممارسة السيطرة بشكل فعّال، خاصة في ظل تزايد الضغوط العسكرية والسياسية عليهم في اليمن والمنطقة.
وبالتالي، فإن هذا الاحتجاز ليس مجرد إجراء انتقامي، بل إشارة واضحة إلى مأزقهم الاستراتيجي، حيث يعتمدون على الابتزاز الدولي بدل تحقيق أي أهداف عسكرية أو سياسية على الأرض، في وقت يحتاج فيه اليمنيون إلى دعم إنساني عاجل وليس إلى المزيد من أساليب الابتزاز التي تهدد حياتهم ومستقبلهم.
وتوقّع محمد الباشا، مدير شركة "باشا ريبورت" الأمريكية لاستشارات المخاطر، أن تشهد صنعاء حملة قمعية واسعة ستطال موظفي المنظمات الدولية والمحلية والسفارات، وحتى البنوك وشركات الصرافة، مؤكداً أن كل من له صلة بالعمل الدولي أصبح مهدداً بالاستهداف، في خطوة وصفها بأنها باتت ردّاً اعتيادياً للحوثيين عقب كل انتكاسة أمنية أو سياسية.
كما أكد الصحفي عدنان الجبرني أن اختطاف موظفي الأمم المتحدة جاء امتداداً لحملات قمعية متصاعدة ضد المعارضين والمنتقدين، مشيراً إلى أن الجماعة باتت "مهووسة" بتوصيف كل خصومها بأنهم "خونة أو عملاء أو مرتزقة"، ما يعكس حالة ارتباك داخلي متفاقمة.
دليل على ضعف الحوثيين لا قوتهم
في جوهره، يكشف هذا السلوك عن هشاشة الحوثيين وعجزهم عن إدارة أي رد فعل استراتيجي فعّال، أكثر مما يعكس قوتهم أو سيطرتهم. فاعتقال موظفين يعملون لدى وكالات إنسانية، تهدف في الأصل إلى التخفيف من معاناة المواطنين اليمنيين، ليس سوى دليل صارخ على غياب أي مشروع سياسي واضح أو رؤية استراتيجية قابلة للتنفيذ لدى الجماعة.
هذا الأسلوب، الذي يشبه في تكتيكاته النهج الإيراني القديم القائم على توظيف المدنيين والمؤسسات الدولية كورقة ضغط سياسية، يظهر بشكل جلي ضعفهم في مواجهة الضغوط الخارجية والهزائم الداخلية، حيث لم يعد لديهم أي قدرة على الرد العسكري المباشر على ضربات مثل الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي أربكت بنية حكومتهم في صنعاء.
إضافة إلى ذلك، يُبرز هذا السلوك انفصال الحوثيين عن الواقع اليمني ومصالح المواطنين، إذ أنهم يتجاهلون حقيقة أن الشارع اليمني لم يعد قادراً على تحمل مزيد من المعاناة، وأن استمرارهم في استخدام المدنيين كورقة ضغط يزيد من الاحتقان الاجتماعي ويضعف شرعيتهم حتى بين مؤيديهم التقليديين. هذه السياسة تكشف أن ما يُظهرونه من نفوذ أو هيبة هو في الواقع واجهة زائفة تغطي مأزقاً عميقاً في قدراتهم العسكرية والسياسية والإدارية.
الناشط الحقوقي همدان العليي، اعتبر أن الحوثيين بدلاً من الرد على الضربات التي هزّت جماعتهم، اختاروا "تهديد اليمنيين وترهيبهم"، مشدداً على أن هذا السلوك يكشف اعترافاً غير مباشر بالضعف، وينسف سردية "التمكين". وأوضح أن كلما اشتد الضغط على الحوثيين، لجأوا إلى استهداف المنظمات الدولية للمساومة والابتزاز السياسي، داعياً إلى تضامن واسع مع المؤسسات الإنسانية التي تحولت بدورها إلى ضحية لسياسات القمع الحوثية.
صنعاء ساحة قمع
قبل سيطرة الحوثيين، كانت صنعاء مدينة نموذجية للتعايش الاجتماعي والتنوع الثقافي، حيث عُرفت مجالسها المفتوحة التي جمعت بين مختلف المذاهب والتيارات، وسمحت للحوار والمناقشة الهادفة بين سكانها من طبقات وخلفيات اجتماعية متنوعة. كانت المدينة مثالاً على الانسجام بين الزيدية والشافعية، بين الحضر والريف، وبين السكان الأصليين والمهاجرين من المحافظات الأخرى، مع احترام متبادل للتقاليد والعادات وحرية الرأي والممارسة الدينية.
غير أن الحوثيين، منذ سيطرتهم على المدينة في سبتمبر 2014، حوّلوا صنعاء إلى ساحة قمع ممنهج، حيث صودرت الحريات العامة والخاصة، وتم تغيير المناهج التعليمية لتصبح أداة لغرس خطاب مذهبي إقصائي، وتضييق مساحة التفكير المستقل، وترسيخ الولاء للجماعة بدلاً من الولاء للوطن. كذلك، خضع الإعلام المحلي لسيطرة الجماعة، وتم التضييق على المؤسسات الثقافية والاجتماعية، ما أدى إلى تراجع الحياة المدنية بشكل ملموس وتفكك النسيج الاجتماعي.
ومع الاحتجاز الأخير لموظفي الأمم المتحدة، يتجلى بوضوح المشروع الحوثي القائم على تقويض أي بقايا للحياة المدنية والمجتمع المدني في العاصمة. فهذه الحملة لا تستهدف فقط العاملين الدوليين، بل تُرسل رسالة تهديد لجميع المواطنين بأن أي نشاط مستقل أو نقدي قد يُواجه بالاعتقال والتجريم، ما يعكس استمرار سياسات الابتزاز والخوف التي اعتمدتها الجماعة منذ البداية لضمان السيطرة الكاملة على المدينة والمجتمع.
ويرى الكاتب مصطفى سالم أن "اعتقال العاملين الإنسانيين يوجّه ضربة قاسية للعمل الإغاثي في اليمن"، ويؤكد أن الحوثيين لم يترددوا في التضحية بملايين اليمنيين الذين يعتمدون على المساعدات، مقابل مكاسب سياسية أو اقتصادية محدودة، ما يعكس مدى تغليب مصالحهم الضيقة على المصلحة الوطنية والإنسانية.
الحوثيون وخدمة المشروع الإيراني
يرفع الحوثيون شعار "نصرة غزة" لتبرير تصعيدهم العسكري والسياسي، لكن الوقائع تشير بوضوح إلى أن هذا الشعار لا يتعدى كونه غطاءً إعلاميًا لتغطية أزماتهم الداخلية وفشل مشروعهم اليمني. فهم لم يقدموا أي دعم فعلي للفلسطينيين، لا على المستوى العسكري ولا على المستوى الإنساني، بل ركزوا على تعزيز وجودهم في المدن اليمنية المحتلة، وتجفيف الموارد الاقتصادية، وفرض سياسات قمعية على السكان المحليين.
في الواقع، يسير الحوثيون على نهج إيراني تقليدي في توظيف القضايا الإقليمية الكبرى كورقة سياسية، تمامًا كما فعلت طهران عبر أدواتها الإقليمية في لبنان وسوريا والعراق. فهم يربطون قضيتهم المحلية بمشروع إقليمي توسعي، لكن هذا المشروع يواجه اليوم مرحلة أفول واضحة؛ فـ"حزب الله" في لبنان يعاني أزمات داخلية وسياسية واقتصادية، وسوريا ما زالت تعاني من تداعيات سنوات الحرب، وحتى إيران نفسها تواجه ضغوطًا اقتصادية وسياسية داخلية متزايدة.
من خلال رفع شعارات نصرة فلسطين، يسعى الحوثيون إلى إظهار صورة وهمية للقوة والمبادرة الإقليمية، بينما يفتقرون فعليًا إلى أي مشروع سياسي أو رؤية استراتيجية حقيقية في اليمن. وفي الوقت نفسه، يواصلون قمع المواطنين اليمنيين وتجويعهم وإفقارهم، مما يعكس أن الهدف الرئيسي للجماعة لم يكن يومًا خدمة القضية الفلسطينية، بل تعزيز نفوذ إيران عبر اليمن، وابتزاز دول الخليج، وضمان موطئ قدم استراتيجي في مضيق باب المندب، أهم ممر مائي في المنطقة.
ويؤكد الناشط السياسي عبدالناصر السريح أن احتجاز المدنيين والرهائن أسلوب مستورد من إيران، ويكشف "إفلاس الحوثيين وعجزهم عن التصرف كسلطة مسؤولة"، حيث يفتقرون لأي مشروع سياسي حقيقي ويكتفون بورقة الابتزاز. ويتفق معه الباحث عادل باحمران، الذي اعتبر أن الجماعة تحاول عبر هذا التحرك "تغيير مسرح النقاش الدولي من فشلها السياسي والعسكري إلى مصير الموظفين الأمميين"، في استنساخ واضح لتجارب إيران السابقة.
العد التنازلي لمشروع الحوثيين
مهما كان حجم الخسائر البشرية والمادية التي خلفتها الضربة الإسرائيلية الأخيرة، فإن الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي يشير إلى أن مشروع الحوثيين في اليمن أصبح في حالة أفول حقيقي. فالمجتمع الدولي والإقليمي يدرك اليوم أن الكيان الذي أقامته الجماعة حالة شاذة لا تتوافق مع أي حل سياسي أو مؤسساتي مستدام في اليمن.
ورغم أن القضاء الكامل على الجماعة يتطلب وجود قوة فعلية على الأرض، فإن هناك عدة مؤشرات تدل على اقتراب نهاية مشروعهم: الاحتقان الشعبي المتصاعد في مناطق سيطرتهم، الناتج عن تفشي الفقر، وتردي الخدمات الأساسية، وانتهاكات حقوق الإنسان المستمرة، كلها عوامل تجعل استمرار سلطتهم أمرًا صعبًا.
بالإضافة إلى ذلك، تواجه الجماعة عزلة سياسية متزايدة على المستويين الإقليمي والدولي، بعد أن فقدت جزءًا كبيرًا من الدعم التقليدي الذي كانت تتلقاه، وتواجه ضغطًا دبلوماسيًا وإعلاميًا مكثفًا على خلفية انتهاكاتها، بما في ذلك احتجاز موظفي الأمم المتحدة. كل هذه المؤشرات تشكل إطارًا زمنياً حقيقياً للعد التنازلي لسلطتها في اليمن، مما يجعل استمرار المشروع الحوثي في الوضع الراهن أمرًا غير مستدام، سواء من الناحية السياسية أو الشعبية أو الاقتصادية.