مرَّغت كرامتهم في الوحل.. كيف قهرت زبيد الأئمة مرتين؟!

تقارير - Tuesday 01 December 2020 الساعة 10:27 pm
الحديد، نيوزيمن، فاروق ثابت:

هل علمتم عن المدينة التي ظلت عاصمة لليمن على مدى 400 عام، ووجدت منذ أن وجد الإنسان على الأرض؟

درة الزمان والمكان وملكة المدائن وعاصمة العلم والحلم والثقافة والتاريخ والسياسة والاقتصاد والأدب.

إنها زبيد الحضارة والمجد والحب والسلام والرفعة والشموخ.

العصر الحجري

أرجعت البعثة الكندية التي زارت زبيد خلال الفترة (1982-1984) برئاسة الدكتور "ادوارد كيل" أول وجود بشري في زبيد إلى العصر الحجري، وأكدت ذلك بشواهد اثارية وثقت لوجود اليمني القديم في المدينة حتى العصر الحميري، ثم ما قبل الاسلام، وحتى الدولة الزيادية وما بعدها.

يُرجع النسابة تسمية المدينة إلى القيل زبيد الأصغر بن ربيعه بن سلمه بن سعد بن زبيد الأكبر، الذي يصل نسبه إلى القيل كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

قرى

يشير المؤرخ "ابن الديبع" أن زبيد كانت عدداً من القرى لقبيلة الأشاعرة التي عاشت على ضفاف وادي زبيد وعرفت تلك القرى ب"المنامة والنقير"، وكانت تحد زبيد قديماً مدينتان: جيجر شرق المدينة وقيانوس بين الغرب والجنوب، وقرتب بالجنوب الشرقي، وجبل قونس في الشمال الشرقي.

الأشاعرة ألين أفئدة

ارتبطت زبيد بمعظم أحداث التاريخ الإسلامي منذ أن هرعت قبيلة الأشاعرة لنصرة الدين الإسلامي والنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بوفد رفيع بزعامة الصحابي الجليل أبي موسى الاشعري، وفيهم اطلق الرسول حديثه الشهير: "جاءكم أهل اليمن أرق قلوباً وألين افئدة"، فارسل الرسول بعد ذلك أبو موسى الأشعري إلى زبيد لنشر الدعوة، وبنى الأشعري مسجده الشهير فيها.

فصاحة

عرفت زبيد منذ ما قبل العهد الإسلامي بفصاحة اللغة وبلاغة اللسان العربي فيها إلى درجة ان الطفل الزبيدي يقول الشعر بطلاقة، وبإمكانه ارتجاله بسهولة، واعتبر النقاد اللهجة التهامية الزبيدية في ابدال "ال التعريف" بالالف والميم أصلا في اللغة العربية، مستدلين بالتهامي الذي قَدِم يستفسر الرسول: "أليس من أمْبِر امصيام في امْسَفر" ليجيبه النبي: "نعم من أمْبِر امصيام في امسفر".

القيل أشعر بن نبت

والاشاعرة أو بنو أشعر أو "اشعرن" كما دونها المسند قبيلة كهلانية سبئية تنتسب إلى أشعر بن نبت بن أدد بن يشجب بن يعرب بن زيد بن كهلان بن سبأ.

ومن قبائل اليمن التي يعود نسبها إلى الاشاعرة الجماهر والركب والزرانيق، والمعازبة والقراشية.

وفي الأشاعرة قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في "اللآلئ المنثورة" للزركشي: "الاشعريون لا يفرون من القتال ولا يغلون، وهم مني وانا منهم".

أطماع ودول

وخلال العهد الإسلامي ذاع صيت زبيد وباتت وجهة الدارسين والنقاد وطلاب العلم من كل بقاع الارض، وإلى جانب ذلك كانت زبيد مطمعاً لكل الدويلات التي نشأت ما بعد سيطرة الدولة العباسية التي ثار الزبيدون على واليها العباسي المعين في صنعاء من الخليفة هارون الرشيد، ليبدأ بعد ذلك عهد الدولة الزيادية في زبيد منذ العام الهجري 204، ثم الدولة النجاحية في العام 412 هجرية، إلى ان انطلقت الدولة المهدية على انقاض النجاحية بقيادة علي بن المهدي في العام 563 تلى الذلك الدولة الايوبية في زبيد عام 569 هجرية، إلى ان اتبع الرسوليون زبيد لدولتهم في العام 636 هجرية، ثم دخول زبيد تحت سيطرة الدولة الطاهرية، والمماليك بعد ذلك، إلى أن احتل الاتراك زبيد عام 945 هجرية، وعادت المدينة إلى سيطرة الاتراك مرة اخرى بعد رجوعهم الثاني في العام 1246 هجرية لتظهر زبيد كميناء تجاري لليمن حتى العام 1918 ميلادية، ليبدأ بعدها عهد التردي إبان حكم الطاغية احمد حميد الدين الذي اصيبت اليمن قاطبة في عهده بالفقر والتخلف والمرض والتشرد والانهيار الشامل في كافة مناحي الحياة.

لم تكن اهمية زبيد كحاضرة ثقافية واجتماعية في اليمن فحسب ولكن كان لها دلالة ومكانة اعظم جعلت جميع الدول التي تعاقبت على حكم اليمن تتهافت للسيطرة عليها بسبب تميز هذه المدينة التاريخية بالزراعة والاراضي الخصبة وانتاج كافة المحاصيل من حبوب وخضار وفواكه، ومن ثم اشرافها على أهم الموانئ اليمنية في الساحل الغربي ك"غليفقة، والفازة، والمخا، والخوخة"، ثم ازدهار التجارة والحرف في هذه المدينة التي لم يتوقف نشاطها الاقتصادي منذ تاريخها الطويل، فضلاً عن أن هذه المدينة الحضارية شكلت قبلة علمية يؤمها الدارسون من كل اقطاب العالم، ولم يتوقف الأمر على استقطابها الطلبة من الامصار العربية المحيطة فحسب.

الزبيدي والفيروزبادي

ومن ابرز اعلام المدينة الذين ذاع صيتهم على مستوى العالم وباتوا مضرب مثل للعبقرية الزبيدية محمد المرتضى الزبيدي صاحب "تاج العروس"، المعجم الذي يعده النقاد اضخم معاجم اللغة العربية قديمها وحديثها، ويتألف من "35" مجلداً، ويعتبره مستشرقون بأنه آخر المد اللغوي في المعاجم العربية التي توقفت بعده، ثم الفيروزبادي صاحب "القاموس المحيط"، الذي اتى "تاج العروس" شارحاً له.

مجزرة شرف الدين في تعز

بعد أن تم إبادة جيش المماليك في المناطق الوسطى في "حبيش" وغيرها ولم ينج منهم الا القليل في العام 924 هجرية- 1518م سلمت قيادة المماليك الاسلحة النارية التي كانت بحوزتها ومن تبقى من حاميتها ومخازن العتاد إلى الامام السلالي شرف الدين الذي اغرق اليمن حينها بالدماء وهدم المآثر الاسلامية والمعالم الحضارية والعلمية والثقافية ونهب الاموال واحرق المدن حتى وصل إلى تعز حيث ارتكب هناك مجزرته المشهورة التي قضى فيها على نحو 5 آلاف من أبناء مدينة تعز في يوم واحد بغرض فرض عبارة "هيا على خير العمل" في الأذان بالقوة المفرطة وذلك بقيادة مجرم سلالي يدعى علي الشويع.

الاستجارة بأمير زبيد

فر المواطنون من تعز ولحج إلى زبيد بعد ان نكل بهم الشويع، ولجأوا حينها للاحتماء بقلعة زبيد من بطش المطهر وجيشه، مستجيرين بأمير مدينة زبيد وقلعتها أحمد الناخوذة الذي أجار الهاربين وهدأ من روعهم.

وبينما بدأ جيش المطهر يحث الخطى متوجهاً صوب زبيد طرح المستجيرون بالأمير وفقاً للباحث توفيق السامعي فكرة المقاومة.

حيرة

احتار الناخوذة بين المواجهة أو التسليم من حيث أن كل من لديه من الافراد لا يزيد عددهم عن 1200 مقاوم أمام عشرين ألف مقاتل مجهزين بعتاد ناري مهول وغير متكافئ مع المقاومين القلة في القلعة الذين يحملون اسلحة بيضاء تقليدية، لذا فإن مسألة المواجهة تعني الانتحار بكل المقاييس.

هجم الشويع بجيشه على مدينة زبيد بمجرد وصوله ودون أن ينتظر من إمامه الاذن بالهجوم على آخر معاقل اليمن حينها.

لم يستكن الأمير الناخوذة أو يستسلم فاهتدى إلى فكرة اغراق الوديان والاراضي المحيطة بالقلعة التي يتحصن بها ومن معه بنهر زبيد، وغَيَّر وجهة الماء لتنفيذ الخطة، ولم ينبلج الصباح حتى كانت المياه غمرت كل الاراضي بتشبع تام.

انقضاض

وعند وصول الشويع وجيشه مشارف القلعة وجههم بالانطلاق دون تمهل، وكانت المفاجأة: فالخيول والجمال والفرسان المهاجمة كلها غاصت اقدامها في وحل الوادي المغمور بالنهر حول القلعة ولم يستطيعوا الرجوع أو التقدم، حتى تحين الامير الناخوذة ومن معه الفرصة لينقضوا بالسهام والسلاح التقليدي عليهم دون هوادة وحصدوا عدداً كبيراً من جيش شرف الدين ولم يتبق منهم سوى فلول ولوا مذعورين بمعية قائدهم الشويع.

الهجوم الثاني

غير أن الأمر بقى يحز في نفس المطهر شرف الدين كمداً وغيضاً، حتى صار إماماً خلفاً لأبيه وبعد اربعين عاماً عاود المطهر الكرّة، وكان قائد الجيش هذه المرة علي بن علي الشويع نجل القائد علي الشويع الذي حاول اقتحام زبيد ومُني وجيشه بالهزيمة الفادحة سابقاً.

كان جيش المطهر قد استحوذ على معظم أراضي اليمن التي تركها الأتراك ولم يبق لهم تواجد سوى في زبيد بنحو 300 جندي تركي، إلى جانب نحو 400 مقاوم من ابناء زبيد.

الانتصار الثاني

كان جيش المطهر كسابقه مكوناً من 20 الف مقاتل تقريباً، غير ان المقاومين في زبيد هذه المرة كان لديهم اسلحة نارية ومدفع واحد، وبدأت الحرب الشاملة واجه فيها مئات المقاومين من اقيال زبيد الاف المهاجمين من جيش الكهنوت السلالي، واستبسل كل من في القلعة بعد ان كانوا تبايعوا في آخر لحظة قبل وصول جيش الائمة على الموت، وجندل المقاومون الآلاف من جيش الشويع الابن، ليفر البقية هاربين، ويسجل التاريخ بهذه المعركة الانتصار القهري الثاني الذي حققته زبيد واقيالها ضد الأئمة خلال أقل من نصف قرن.

عودة

مؤخراً عادت الإمامة من جديد وبوجه اقبح والعن واكتسحت كل اليمن لتلاقي مقاومة ضارية وطردا مشينا في كل مكان وجد فيه أحرار اليمن بما في ذلك تهامة وزبيد والساحل الغربي.

انتصار

ومثلما انتصرت زبيد الشامخة على الأئمة وداست على رؤوسهم في الوحل، ستنتصر تهامة وكل اليمن ضد الأئمة الجدد.

"وإن الليل زائل".