"جار الله عمر".. الرجل الذي تم اغتياله مرتين!

تقارير - Wednesday 29 December 2021 الساعة 05:44 pm
نيوزيمن، كتب/ د. صادق القاضي:

في صباح سبت أسود، يوم "28 ديسمبر/ كانون الأول 2002م"، وبينما كان "جار الله عمر"، يتألق كأيقونة للنبل والسلام، وهو يلقي أمام مختلف وسائل الإعلام، كلمته القوية نيابة عن "الحزب الاشتراكي اليمني" في المؤتمر العام الثالث لحزب "التجمع اليمني للإصلاح" "جماعة الإخوان" في اليمن.. كان هناك، قاتل متربص، يتحرك كالشيطان، يندس بخفاء، وينسل كالأفعى سرا بين أكثر من 4000 شخص هم أعضاء وضيوف المؤتمر.

في ذلك الصباح تحدث "جار الله عمر" بحماس وثقة عن الآمال والهموم الكبيرة للوطن والشعب، ودعا إلى تجاوز "آثار التشظي والتفتت وويلات العنف والحروب الأهلية".. ومواجهة "التحديات الكبرى في المجالات المختلفة، وأهمها تعثر التنمية وشحة المياه وتكاثر السكان وتفشي الفقر والفساد والأمية وتهميش المرأة وتراجع الهامش الديمقراطي، وسيادة التخلف العلمي والمعرفي".. في حين كان القاتل يتحسس بندقيته، ويقترب من المنصة.

تحدث "جار الله عمر" يومها عن أشياء كثيرة، لكنه ركز بشكل ملحوظ على قضايا العنف والإرهاب، منوها بالحاجة للسلام، وضرورة تسخير "كافة الجهود والموارد لتحقيق التنمية بدلاً من شراء الأسلحة"، وأهمية "التصدي لثقافة العنف ومنع الثارات والإسراع في إصدار قانون ينظم حيازة وحمل السلاح ومنع المتاجرة به"..

كان القاتل "علي أحمد جار الله" قد تسلل بطريقة غامضة إلى مكان المؤتمر، صالة 22 مايو المغلقة بمدينة الثورة الرياضية بصنعاء، وخلال الخطاب ظل يرى الرجل ويسمعه وهو يذكر الله ويدعو للإيمان النقي الواعي، والقيم الإسلامية الراشدة.. لكنه لم يفهم شيئاً، ولا يمتلك الاستعداد للفهم ليتراجع عن حقده ونواياه الغادرة، كان على قناعة تامة أن هذا الرجل كافر، يجب قتله، ولو تعلق بأستار الكعبة.!

كان على يقين مطلق أن قتل زعيم يساري يقربه إلى الله زلفى، وبمجرد أن أنهى "جار الله عمر" خطابه التاريخي، كان القاتل قد أصبح قريباً من المنصة، وبندقيته في كامل جاهزيتها، وفي زخم دوي التصفيق الحار، تلقى صدر الشهيد الكبير رصاصتين غادرتين، وسقط على مرأى ومسمع الحضور، ووسائل الإعلام، ثم ذهول الجميع على امتداد الساحة اليمنية.

تم القبض على القاتل، وتبين أنه ليس غريباً عن الحفل والقائمين عليه، فهو ينتمي إلى "حزب الإصلاح"، صاحب المؤتمر، والأهم أنه كان طالباً في "جامعة الإيمان".. علاقة هذه الجامعة بالإرهاب أكثر من كافية: "أبو الحسن المحظار" زعيم جيش عدن أبين، كان حارساً شخصياً للزنداني، ودرس بجامعة الإيمان"، كذلك: "الناشري" قاتل الراهبات في الحديدة، ومثله "عابد كامل" قاتل الراهبات في جبلة، ومثله "هشام اللحجي" أمير تنظيم القاعدة في لحج، ومثله "الجزائري" الضالع في إرهاب الضالع، وحتى العراقي "أبو ليث" الذي كان يزوّر الجوازات والوثائق للإرهابيين.. 

كل هؤلاء القادة والقتلة الإرهابيين وغيرهم الكثير، كانوا طلاباً في "جامعة الإيمان".. كلهم مرّوا من هناك، وتخرجوا من تحت عباءة "الزنداني" كائنات مسعورة وعبوات ناسفة.. وفيما يتعلق بـ"علي أحمد جار الله" فقد اعترف بكل شيء، بما فيه أنه كان جندياً في الفرقة الأولى مدرع، وكان ينفذ خطة معدة بتصفية قائمة جاهزة سلفاً تحتوي على أسماء رموز كبيرة من رواد التنوير واليسار في اليمن.

تم إعدامه لاحقاً، الحيثيات الجنائية للحادثة تجعلها من أبسط حوادث الاغتيال على الإطلاق، ومع ذلك أصبحت فوراً، حتى من قبل أن يُكتب التقرير الجنائي، مادة ساخنة للمناكفة السياسية المتبادلة بين جماعة الإخوان وحزب المؤتمر، ومن المؤسف أن بعض أجنحة الحزب الاشتراكي نفسه، انخرطت في تسييس وتمييع قضية زعيمها الشهيد، بتحويلها إلى مادة للاتهامات الجزافية المغرضة، وإن كان أمين عام الحزب الاشتراكي حينها ناشد: "المؤتمر والإصلاح إلى الاتفاق على كل شيء، إلا على تضييع قضية الشهيد "جار الله عمر".!!

لكن التمييع ظل هو سيد الموقف، وما يزال كذلك إلى حد ما اليوم، حتى من خلال بعض رفاق الشهيد، الذين شاركوا في اغتياله هذه المرة من خلال اغتيال قضيته السياسية، مع الجميع الذين يمكن مبدئيا تأكيد براءتهم من عملية الاغتيال الجنائي، فحتى جماعة الإخوان "حزب الإصلاح"، لا يبدو أنها تورطت فيها بشكل مباشر، مع الأخذ بالاعتبار علاقة هذه الجماعة بهذه العملية الإرهابية، من خلال علاقتها العمومية بالإرهاب كفكر ومؤسسات وأدوات، وهي علاقة لا تخفى على أحد. 

كما يمكن القول إن "جار الله عمر" نفسه، مسئول بشكل ما عن اغتياله، كشهيد لحسن نواياه، وثقته غير المدروسة بجماعة لا ترى فيه وفي حزبه غير عدو وجودي، وفي كل حال: الإرهاب هو القاتل، الإرهاب بمعناه الواسع هو الذي استهدف "جار الله عمر" لأن هذا الأخير كان يستهدفه، ويهدد باجتثاثه من الجذور، هكذا تحدث "جار الله عمر" مع أنفاسه الأخيرة، وكأنه يعرف قاتله، ويندد به مسبقا، قائلا: "نجدد إدانتنا ورفضنا للإرهاب بكل أشكاله وصوره.. ونرى أن التغلب عليه غير ممكن دون القضاء على أسبابه وتجفيف منابعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية".