فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

عندما يمارس الفساد كثقافة، يكون تكريم النزاهة مأساة حقيقية

Saturday 09 August 2025 الساعة 04:27 pm

في اليمن وحدها، يقدِّم لك التاريخُ والسياسةُ والاقتصادُ والسلطةُ والمجتمعُ نماذجَ متعددةً في ممارسة الفساد المكثف.

الفساد في اليمن لا يُمارَس كسلوكٍ مُجرَّمٍ مخالفٍ للقانون، بل يُمارَس كثقافةٍ جمعيةٍ تعمل على تحصين الفساد من سلطة القانون. وأكثر من ذلك، تحاول أن تقنعك أنَّه من الحكمة بمكان أن يتم التعاطي بواقعية مع ثقافة الفساد. حتى المسؤول أو الحاكم في اليمن أصبح يرى أن طولَ بقائه على كرسي السلطة مرهونًا بقدرته على إطلاق أيدي مَن حوله وحتى معارضيه في ممارسة قسطٍ من الفساد والاستئثار بنصيبٍ من المال العام والثروة الوطنية.

بضعُ خطواتٍ اتُّخِذَت كانت كفيلةً بانخفاض قيمة الدولار الأمريكي إلى ما يقارب نصف القيمة تقريبًا، قبل أن يرتدَّ طرفُ المواطن اليمني إلى جفنه!

هذا الانخفاض السريع يكشف تغوُّلَ الفساد في هذه البلاد، وفي نفس الوقت يطرح علينا بعض الأسئلة القائلة: لماذا لم تُتَّخَذ مثل هذه الخطوات منذ سنوات؟ ولماذا سُمِح ابتداءً لمثل هذا الارتفاع الكبير في قيمة الدولار؟ حتى تم استنزاف المواطن اليمني في مناطق الشرعية، دون أن يتم التصدي له حتى من باب الحفاظ على ثقة المواطن تجاه سلطة الشرعية التي يجب أن تحلَّ في العاصمة صنعاء محلَّ سلطة الحركة الحوثية الانقلابية.

بدون شك، هذا الانخفاض السريع في قيمة الدولار الأمريكي يعني أن ارتفاعه من الأساس لم يكن ارتفاعًا طبيعيًا ناتجًا عن عوامل اقتصادية موضوعية يصعب تجاوزها في مثل هذه الظروف (التي مُنعت فيها سلطة الشرعية على سبيل المثال من تصدير النفط والحصول على العملة الصعبة)، بل ناتجٌ عن رغبة الفساد "فقط" في التهام قدرٍ كبيرٍ من الثروة النقدية لصالح قلةٍ من المنتفعين الفاسدين، يأتي في مقدمة هؤلاء صيارفةٌ يتقاسَمون أرباحَ الفساد النقدي مع قياداتٍ في السلطة الحاكمة.

التاريخ يُحدِّثنا عن تعرُّض كثيرٍ من الدول للحروب الداخلية، لكن هذه الحروب لم تؤدِّ على المستوى الاقتصادي إلى أن تكون قيمةُ الفئة الواحدة من عملتها وفي جزءٍ منها تساوي خمسةَ أضعافٍ نفس الفئة الواحدة في الجزء الآخر من أرضها، كما حدث في اليمن، حيث بلغتْ قيمةُ الريال اليمني في مناطق الحركة الحوثية خمسةَ ريالاتٍ يمنية في مناطق الشرعية!

على هذا الأساس، نستطيع القول إنَّ في اليمن وحدَها يُستثمَر فسادُ السياسة في الاقتصاد وفسادُ الاقتصاد في السياسة، بشكلٍ يجعل عيشَ المواطنين في ظل الفساد هو القاعدة والعادةَ المعمول بها، ومحاربته هو الاستثناء. ومع تكرار العادة في اليمن، تحوَّل الفساد إلى ثقافة.

على سبيل المثال، مع النزول الميداني لضبط عدادات محطات الوقود في محافظة تعز، تبيَّن أن جميع محطات الوقود كانت تمارس الفساد على المواطن وتسرق منه منذ سنوات نصفَ لترٍ (وبعضها أقل أو أكثر من نصف لتر)، باستثناء محطةٍ واحدةٍ تم تكريم صاحبها. على نزاهته هذا يعني أنه من مجموع 32 محطة رسمية في تعز وعشرات المحطات غير الرسمية، تم العثور على محطة واحدة لم يمارس مالكها الفساد خلال السنوات الماضية.

الملفت في الأمر هنا أن التكريم يكون دائمًا للشخص المبدع أو المتفوق أو المضحي في سبيل الوطن. لكن الصورة في تعز تحكي عن تكريم صاحب محطة لا لشيء إلا لأنه من بين أقرانه البالغ عددهم خمسين تقريبًا لم يمارس الفساد على المواطنين، ولم يسرق مالهم في هذه الظروف. فهذا الخارج عن العادة وعن المألوف الثقافي، في نظر مَن كرَّموه، يشكل حالةً استثنائيةً ومنجزًا يستحق الاحتفاء به. مع أن الشيء الطبيعي أن يكون الفاسدون اثنين أو ثلاثة يشكلون حالاتٍ شاذةً من بين خمسين شخصًا، وليس العكس.

خلاصة القول: الصورة التي نشاهد فيها تكريمَ شخصٍ لأنه لم يمارس الفساد في مهنته أو وظيفته العامة ليست صورةً إيجابيةً، بل هي صورةٌ مخجلةٌ ومأساويةٌ في حقيقتها وفي دلالاتها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأنها ببساطة شديدة تعني أن الفساد في هذا المجتمع أصبح ثقافةً جمعيةً يمارسها السواد الأعظم.