همدان العليي

همدان العليي

تابعنى على

فساد بيت حميد الدين والحوثيين

منذ ساعة و 18 دقيقة

فساد بيت حميد الدين:

خلال نصف قرن، أخفقت الآلة الدعائية الإمامية في تحميل النظام الجمهوري مسؤولية تفشِّي الفساد داخل مؤسسات الدولة في اليمن، وكانت مثل هذه الأطروحة رائجة بين الأسر الإمامية التي تتعامل مع النظام الجمهوري كعدو حل بدلًا عن النظام الثيوقراطي العرقي الطائفي.

يدرك العارف بتاريخ اليمن أنَّ الفساد إحدى التركات السيئة التي ورَّثهَا الإماميون وجعلوها ثقافة سائدة في البلاد بحسب شهادات كثير من الكُتَّاب العرب والغربيين الذين زاروا اليمن أثناء حكم بيت حميد الدين، لتستمر هذه الثقافة حتى بعد سقوط حكمهم.

على سبيل المثال لا الحصر، شكا اليمنيون كثيرًا من فساد أجهزة ومؤسسات القضاء والعدل، وتأخير البت في قضايا المواطنين. وعند النظر إلى وضع القضاء في عهد بيت حميد الدين، سنجد أنَّ الفساد كان مهيمناً على القضاء. تقول جولوبوفسكايا في كتابها الذي وثَّق جوانب من تلك المرحلة: «وكان الشائع أن يماطل القاضي بالنظر في قضية ما، وخاصة فيما يتعلق بمسائل قسمة الممتلكات وحق السقي بالمياه... إلخ، وكانت تصل المماطلة بالنظر في القضايا أحيانًا إلى عِدَّة سنوات، وكانت الأطراف المتنازعة أو مُمثّلوها تضطر إلى المكوث في المدينة طيلة هذه الفترة، يستعطفون الحُكام أو يرشونهم للإسراع بالنظر في قضاياهم»( ).

وحول استخدام القضاء لإثراء القضاة والعاملين في هذا المجال، تقول المؤرخة: «ولم تُمارَس الأوامر غير القانونية في المناطق المعزولة عن المراكز فقط، بل وفي العاصمة أيضًا، فقد وسَّع مثلًا رئيس محكمة الاستئناف في صنعاء مساحة عقاراته بشكل ملحوظ، وتكون هذه التصرفات ممكنة فقط بعد إصدار الأحكام غير الصحيحة، والمتعلقة بقطع أراضي الملَّاكين الصغار والمتوسطين»( ).

وعن استغلال النفوذ وانتشار السوق السوداء وتمكين الفاسدين في المجتمع من مصالح المواطنين لتسهيل ابتزازهم وسرقتهم وبالتالي ضمان ولاء الفاسدين للإمام، تذكر المؤرخة الروسية مثالا آخر وهو «أنَّ الشاص رئيس أسرة أرستقراطية مشهورة وموظف كبير، قد حصل على آلاف الجوازات من الإمام على شكل هِبَة، وباع هذه الجوازات إلى اليمنيين الذين ينوون السفر إلى الخارج بقصد العمل بقيمة تتراوح بين 60 إلى 100 ريال للجواز الواحد، مع إنِّ السعر الرسمي للجواز يعادل 17 بقشه»( )، وهذا يعني أنَّهُم يبيعون جواز السفر الواحد للمواطن بأكثر من 180 ضعفا لسعره الرسمي. ولا أعتقد بأنَّ هناك سُلطة في العالم تمارس مثل هذا النوع من الفساد. فالإمام كان يشتري ولاء الشخصيات المؤثرة في المجتمع من خلال منحهم فرص لممارسة الفساد وتمكينهم من نهب المجتمع، وهذا ما يمارسه الحوثيون تمامًا.

كذلك النفوذ للإثراء والكسب غير المشروع، تقول جولوبوفسكايا في شهادتها: «حصل كبار موظفي الدولة على مرتبات عالية تتراوح بين 100 إلى۱۲۰ ريالًا، ولم تكُنْ مع ذلك رواتبهم هذه مصدرًا لثرائهم، إذ كان المهم للأمراء إعطاؤهم سُلطة غير محدودة من قِبَل الإمام في النواحي الاقتصادية والسياسية والإدارية في مناطقهم. ومثالًا على ذلك يصح أن يكون الشخص المُعيَّن بمنصب عامل قضاء أو ناحية، حيث يصبح حاكمًا إقطاعيًّا في منطقته، وتُجمع تحت قيادته جميع الوظائف الاقتصادية (جمع الضرائب، صرفيات خزينة الدولة، التجارة إلخ...)، والإدارية (تعيين الأشخاص في الوظائف في منطقته)، وممارسة القضاء (حل المشاكل الاجتماعية المختلفة، وأحيانًا مشاكل السكان الخاصة). وكان نظام الحكم الإقطاعي في اليمن بالذات يُعتبَر مصدرًا لإثراء الكثير من الأشخاص الذين استخدموا جميع وسائل الإكراه غير الاقتصادية طيلة فترة بقائهم في هذه المناصب الحكومية أو تلك.  أي بمختلف الأشكال والوسائل التي تُنفَّذ. فمثلًا، لقد فرض هادي هيج في حدود (850) بقشة، أي أكثر من ۲۱ ريالًا، على كُلِّ عقد قران في المنطقة التي كان عاملًا عليها. وكان غالبًا ما يعطي أوامره باعتقال الأشخاص (المذنبين) ويرميهم في السجن أو يُقيَّدون بالقيود ويوضعون في العراء حيث تلفحهم الشمس المحرقة. ومن أجل تجنُّب هذا العقاب كان (المذنب) مُستعِدًّا لأن يفتدي نفسه بأيَّة وسيلة»( )( ).

أمَّا الرشوة في ذلك العهد، فحدِّث ولا حرج، وقد سجَّل الكاتب المصري الدكتور مصطفى محمد الشكعة شهادته حول هذا النوع من الفساد في مرحلة حكم بيت حميد الدين. يقول: «وأمَّا الرشوة في اليمن، فإنَّها لكثرة ما تفشَّت نتيجة فساد الحُكم، تكاد تكون دستورًا مُعترَفًا به، والموظف اليمني مضطر أن يرتشي لكي يعيش، لأنَّ أكبر مرتب في اليمن لا يزيد على ما قيمته عشرة جنيهات مصرية، وأمَّا بقية صغار الموظفين فلا يكاد يتجاوز مرتب الواحد منهم جنيهًا مصريًّا واحدًا في الشهر، وهو مضطر أن يُطعم عائلة لا تقل في المتوسط عن سِتَّة أفراد، الأمر الذي يدعوه إلى احتراف الرشوة. ولذلك، فإنَّ أي أمر من أمورك أو أيَّة ورقة في ديوان لا تنتقل من موظف إلى آخر إلَّا بضريبة معلومة، وهكذا تتكرَّر قصة إضاءة مدينة بكين المشهورة»( ). 

هذا ما أكدته جولوبوفسكايا، التي أوضحت بأنَّ جميع الموظفين الكبار والمتوسطين والصغار يُعتبَرون مُمثّلين لسُلطة الإمام ويقومون بدور الوسيط بين الإمام وعامة الناس، ولا يتم ذلك إلَّا عَبْرَ الرشوة. تقول: «بدون أوامر الموظفين لا يمكن حل مسألة واحدة. وحتى في الوقت الذي يحصل فيه مُقدِّم الطلب على موافقة الإمام على طلبه، يجب عليه جمع التواقيع الإضافية من الشخصيات الرسمية، حيث كان القيام بهذا العمل عسيرًا بدون إعطاء الرشوات للمسؤولين، ومن الطبيعي على هذا الأساس أن تستاء جماهير الشعب الواسعة من انحلال وفساد موظفي مختلف أجهزة الدولة»( ).

كانت الرشوة ثقافة مجتمعية في زمن الأئمة حتى أنَّها سُمِّيَت في زمن حُكم الإمام يحيى حميد الدين في العام 1926م، «حق ابن هادي» بحسب شهادة الشاعر اليمني الكبير عبد الله البردوني( )، وبعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر، وجد النظام الجمهوري صعوبة في معالجة هذه الظاهرة المتفشية، إلَّا أنَّ الوضع تغيَّر إلى حَدٍّ ما بعد عقود. بقيت الرشوة موجودة في اليمن مثلها مثل أي قُطْر عربي، لكنَّها كانت مُجرَّمة ولم تكُنْ عُرْفًا مقبولًا بين الناس كما كان الوضع أثناء الحُكم الإمامي. كانت تُمارَس في الظلام وليس علنًا لوجود جهود واسعة لمحاصرتها. ومع بدايات ظهور الهواتف المُزوَّدة بكاميرات التصوير، تدافع الناس لتوثيق عمليات الرشوة بالتصوير، ومن ثمَّ نشرها كوسيلة من وسائل الرفض والمكافحة. تصوير رجل المرور إذا أخذ رشوة، والموظف الحكومي المدني، وحالات كثيرة من هذا النوع، ذلك لأنَّ المجتمع كان يرفضها، كما بادرت منظمات المجتمع المدني لتنفيذ أنشطة لمواجهتها، حتى جاء الحوثيون وأعادوا وتيرة الرشوة في المؤسسات كما كان الوضع عليه أيام الحُكم الإمامي.


#فساد_الحوثي_الاقتصادي

من صفحة الكاتب على منصة إكس