محمد عبدالرحمن

محمد عبدالرحمن

عفاش والزوكا.. ثنائي الوفاء والتضحية وأيقونة ديسمبر الجمهورية

Saturday 30 November 2019 الساعة 07:16 am

هي الأيام تختبر الرجال وتنقح معدنهم وتظهر بواطنهم على حقيقتها، في الحياة والموت تبلورت عُرى الصداقة والأخوة بين الشهيدين اللذين تعاهدا على الحياة بمُرها وحلوها وتقاسم الموت معاً، إما حياة في ظل الجمهورية أو الموت دفاعاً عنها.

بعيداً عن الإطار الذي يمكن توصيف ما حدث في ظلاله وبعيداً عن كل التكهنات التي تبحث عن أسرار ديسمبر الغامضة، سأتحدث عن الرؤية التي يمكن لي أن أتخيلها قبل الرصاصة الأخيرة لكلا الشهيدين، وسوف أستثني في الرؤية كل من كان حولهما.

والمعارك محتدمة عند أسوار منزل الصالح بين الحراسة التي رفضت أن تترك آخر عمود في هذه الجمهورية وحيداً وبين القادمين من أسفل التاريخ يحملون الحقد والكراهية، كان الزوكا هو السند الأول والأخير لعلي عبدالله صالح، وكان الأخير هو السند للزوكا، كان كل منهما مترس الآخر، يعرفان المصير وقد قررا أن يخوضاه معاً بكل رجولة واستبسال.

يقف صالح عند زاوية الغرفة ينظر إلى الزوكا وهو مستند على الباب يرتدي جعبة وآلياً بعد أن عاد قبل قليل من البوابة الرئيسية يساند ويتفقد الحراسة المقاتلة.

صالح: يا زوكا خذ الحراسة وامش لك، سأبقى هنا لأنني المعني بالأمر وليس أنتم.

ينظر إليه الزوكا بعين العتب الأخوي والنظرة التي يعرف صالح ما خلفها من صلابة الموقف ورجولة الزوكا، ثم يردف مرة أخرى قائلاً: امش يا زوكا وإن حدث لي شيء فأنت خير من سيتولى الأمر.

أهكذا يا زعيمنا تريدني أن أتركك في أحلك الظروف، يرد عليه الزوكا، أعرف بماذا تفكر فيه، وأعرف أنك لا تريد أن يتحمل أحد قليلاً من الجرح والدم، وأعرف أنك لا ترغب أن تسفك قطرة دم في سبيل حمايتك، ربما أشاركك نفس التفكير، لكن ليس أنا الذي يجب أن أترك علي عبدالله صالح في أشرف معركة وأطهر صداقة وأنقى تضحية.

اسمع مني يا علي عبدالله صالح ما سأقوله لك: إذا لم تردني أن أقاتل من أجلك فلن أفعل، لكنني سأقاتل من أجل الأخوة التي تربطني بك والصداقة التي طافت بنا في الحياة رفقاء الدرب، سأقاتل عن كل يوم عرفت فيه صديقي وأخي علي عبدالله صالح، إذا لم تتوج الأخوة والصداقة بالتضحية يا صديقي فهي كذب ومصالح وحسب.

اليوم هو يوم كشف الحقيقة التي يجب أن تكون ماثلة أمامك اليوم، عارف الزوكا الذي لا يمكن له أن يغادر هذا البيت وأن يترك هذا السلاح وأن لا يكون إلا الجدار الأخير الحامي لصديقه، الموت معاً يا صديقي أو الحياة معاً، وإن كان الموت سيختار واحداً منا فقط فيجب أن أكون أنا.

يسود قليل من الصمت بينهما ودوي القذائف يملأ فراغ ذلك الصمت المشهود والمنطوق بكل سنوات الحياة التي جمعت بين رجلين أحدهما من صحراء شبوة والآخر من جبال صنعاء وكان القدر والمصير قد ولد واحداً لهما وجمع بينهما في الحياة والموت والحزب والقضية.

يعتدل علي عبدالله صالح في جلسته ويزيح عنه البندقية التي كان يستند عليها بيده ويقول: العهد يا زوكا بيننا باقٍ، لكن ضميري يدفعني أن أصر على مغادرتك، ضميري يريد أن أخوض معركتي الأخيرة التي حُسمت نتيجتها، معركتي التي أنتظرها يا زوكا، لقد تعبت من هذه الحياة كثيراً ولا بد أن أنهي كل شيء.

لن أقبل أي وساطة تمنعني من الدفاع عن بيتي وشرفي وكرامتي، ولن أجود لهم بالخروج الذي يريدونه، الموت هنا يا زوكا هو لعبة طفل يفرح بها، وهذا بيتي الذي لا يمكن أن أترك فرصة الموت فيه بكل فرح.

في المعارك لا بد أن تبني لك مترساً قوياً، وأنت اليوم تثبت لي أنك هذا المترس الذي وثقت به أنه لن يخون ولن يخذل، هذا الوفاء منك يقتلني، وهذه التضحية منك أعجز عن وصفها.. لماذا تفعل كل هذا بي يا عارف!!

تشتد المعركة وتقترب أكثر، الحراسة أُنهكت، لم يعد هناك أحد، لقد سقط الجميع شهداء، وبقي صالح وعارف، تقدم الزوكا نحو البوابة الداخلية واتخذ وضعية القتال وبدأ يقاتل ويطلق الرصاص، فتقدم إلى جواره صالح واتحدا معاً في تلك اللحظة كمقاتل واحد بأسه شديد.

بعد نصف ساعة من القتال في اللحظات الأخيرة هدأت بندقية الزوكا، فالتفت صالح إليه وكأنه شعر أن الذي يخاف أن يحدث لصديقه قد حدث، وبالفعل نالت رصاصة العدو من جسد الزوكا واخترقته، فحاول صالح سحب جثة صديقه نحو الداخل، وقلبه يتمزق من البكاء.

كانت الحياة ما زالت تطوف بين أوردة الزوكا وقلبه، فتح عينيه ونظر إلى صالح وهو يمسك بيده اليمنى البندقية وموسداً جسده اليد اليسرى، لم يستطع الكلام، لكن تلك النظرة أخبرت صالح بمكنون ما في قلبه وما يريد أن يقول في الوداع، ثم أغمي عليه وصالح عيناه تمتلئان بالدمع والقهر.

نظر إلى الزوكا وعيناه المحمرتان من التعب والسهر تغرقان بالدمع، واستحضر بيتاً من الشعر للبردوني:

يا صديقي لبني أو نادني… لم يعد لي من ألبي أو أنادي

ثم عاد يقاتل بكل بسالة وبكل قوة، القتال الأخير الذي لا بد أن تكون فيه النهاية ملحمية يعجز التاريخ عن تدوينها، فانهمرت القذائف بغزارة المطر، وكانت النهاية المرسومة للبطل ويسقط شهيداً إلى جوار صديقه الزوكا.

"كُن لي مثل عفاش أكُن لك مثل الزوكا".. هذا المثل الذي يترسخ اليوم تعبيراً عن الوفاء والتضحية، والذي يتجسد في الملحمة التي لا يمكن أن تتكرر في التاريخ إلا بصعوبة، الصداقة معيارها المواقف الرجولية التي لا تفرق بين الحياة والموت.