الدكتور حمود العودي يتتبع دور وهوية المجتمع المدني: العمل التعاوني وحصار السبعين وزلزال ذمار (2-2)

السياسية - Wednesday 31 July 2019 الساعة 11:16 pm
نيوزيمن، كتب/أ.د. حمود العودي

ثانياً: دور منظمات المجتمع المدني الداعم للسلطة والمعارضة والشريك الفاعل في التنمية

لقراءة الحلقة الاولى:

الدكتور حمود العودي متتبعاً سيرة السلطة والمعارضة في اليمن مع "المجتمع المدني": من التحريم إلى التدجين

بذلك نستطيع القول بالخلاصة، إن ثلاثي القسمة "الضيزى" لمنظمات المجتمع المدني في اليمن -بين أحزاب السلطة والمعارضة والسفارات والمنظمات الدولية، وقبول هذه المنظمات بمثل هذا الوضع المشين- هو أمر لم يعد يفسد على هذه المنظمات دورها البالغ الأهمية في البناء والتنمية فحسب، بل وحرم المتقاسمين -بغير حق- (لهذا المكوِّن الاجتماعي البالغ الأهمية) من دور داعم وشريك حقيقي لا غنى عنه في بناء المجتمعات المدنية الديمقراطية الناهضة، وهو الدور المغيّب الذي لا يمكن أن تقوم به أي سلطة أو معارضة أو دعم خارجي مهما ادعى أي منهم لنفسه ذلك، وهو الدور الحقيقي لمنظمات المجتمع المدني غير المعني قط بامتلاك سلطة سياسية يدافع عنها، ولا دور معارضة سياسية كذلك يطمح من خلالها الوصول إليها، بقدر ما هو معني بدور وطني مدني ومجتمعي داعم ومعين لكل سلطة صالحة، وناقد ورقيب عام على أخطائها من جه‍ة، ومعين ومناصر لكل معارضة وطنية صادقة وشريفة في وجه سلطة فاسدة أو فاشلة من جهة ثانية، وشاهد حق لهما في كل ما هو صواب، وعليهما في كل ما هو خطأ في حق الوطن والمواطن من جهة ثالثة، وهي قبل وبعد كل ذلك النصير الذي لا يقهر في حماية ونصرة الوطن عند الشدائد والمحن، حينما تعجز الدولة أو تفشل في ذلك "سلطة كانت أو معارضة" عوضاً عن الدور المهني الأول والأساس لهذه المنظمات في خدمة أعضائها كل وما تأسس من أجله وتعزيز بناء المجتمع واستقراره وسلمه الاجتماعي من خلال ذلك في قاع المجتمع وأوساط سواده الأعظم، حيث لا تستطيع أن تصل إليه أي سلطة أو معارضة أو برامج عمل وتنمية داخلية أو خارجية خاصة أو عامة مهما ادعت لنفسها ذلك، هناك حيث تعيش أبسط أسرة في آخر قرية ريفية أو حارة شعبية في أبسط مدينة ثانوية، وتحلم بشربة ماء نقية وفرصة عمل شريف وخدمة صحية جيدة، والتعبير عن الحقوق والدفاع عنها، وتلبية لما لا يحد من تفاصيل احتياجات الحياة المادية والروحية البسيطة في شكلها المادي والمعنوي والكبيرة جداً في دلالاتها الاجتماعية والإنسانية، بدءاً من التعارف على إماطة الأذى عن الطريق وإفشاء السلام والكلمة الطيبة بين الناس، مروراً بتعاون ومواساة الناس لبعضهم البعض في السراء والضراء، وصولاً إلى تحقيق أعظم المنجزات الاقتصادية والتنموية المرتبطة بحياة الناس الخاصة والعامة، وانتهاءً بدرء المخاطر عنهم وعن الوطن بأسره عند الشدائد، والمجسد كل ذلك في ضوء الحقائق والنماذج الآتية:

-العمل التعاوني كنموذج للشراكة المجتمعة والمدنية الفاعلة في التنمية

من لم يستطع أن يتخيل يقين دور منظمات المجتمع المدني في التنمية وحقيقته على الأرض فما عليه إلا أن يتذكر دور هيئات التعاون الأهلي للتطوير في اليمن في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، وما أحدثته من ثورة اجتماعية تنموية وأخلاقية في حياة الناس في بث لروح التعاون والعمل الطوعي للمصلحة المشتركة، ونكران الذات والحد من العصبية والقبلية وثقافة الكراهية والثأر، وتعزيز مبدأ القبول بالآخر من خلال التأسيس الحقيقي لأول تجربة ديمقراطية حقيقية في اليمن المعاصر، والتي ارتكزت عليها أنظمة وممارسات الانتخابات التعاونية قبل غيرها على مستوى الجمهورية، وهي الثورة الاجتماعية والثقافية التي لا تقل أهميتها في تنمية الإنسان وتغييره نحو الأفضل عن أهمية إنجازها الأعظم على الصعيد التنموي في المجالات المتعددة بتعدد احتياجات المجتمعات المحلية، من طرق تجاوزت أطوالها الخمسين الألف كيلو متر في أنحاء اليمن، وفي أكثر مناطقها وعورة وعزلة، حيث ما كان لأي جهد رسمي أو دولي أو خاص أن يصل إليها في أعماق الريف وجباله الصعبة، وفك العمل التعاوني المدني بذلك عزلة اليمن الجغرافية الداخلية والخارجية لأول مرة، وقس على ذلك المدارس ومشاريع المياه والصحة وغيرها من المشاريع الخدمية والإنتاجية المختلفة.

ويكفي أن نتذكر ونذكر من لا يذكر أو لا يعرف بأن أول إمداد للمدن الرئيسية صنعاء وتعز والحديدة بمياه الشرب قد كانت مشاريع تعاونية عامة، في تلك المرحلة، وكل ذلك ما يزال شاهد حق على دور المجتمع المدني في التنمية، ودليل إدانة تاريخية على من تسببوا عن عمد في إجهاض هذه التجربة المدنية التنموية الرائدة نهاية الثمانينيات من ساسة الداخل والخارج، وبمقدار ما أن التاريخ سيحتفظ لهذه التجربة وصناعها بكل التقدير والثناء الذي يستحقونه فإنه سيحتفظ كذلك لأعدائها ومن تسببوا في إجهاضها من ساسة الداخل والخارج بما يستحقونه من الخزي والحساب والعقاب قرب الوقت أم بعد، وإن لم يكن في هذه الدنيا فأمام الله يوم القيامة.

-انتصار الثورة والجمهورية في حصار السبعين هو انتصار المجتمع المدني

ذلك عن دور المجتمع المدني في التنمية عندما تتاح له الفرصة من قبل السياسيين أو يتركونه وشأنه على الأقل، أما عن دوره في نصرة الوطن عند الخطر ونجدته عند الشدائد فيكفي أن يتذكر شهود العيان وجنود النصرة من الكبار في حرب السبعين يوماً، ويسأل الصغار عن تلك المعركة التي حسمت الصراع مع فلول الملكية والتحالف الرجعي العربي والاستعماري الدولي من ورائها لصالح النظام الجمهوري، ووضعت نقطة النهاية للنظام الملكي المتخلف رغم حصاره لمدينة صنعاء العاصمة على مدى سبعين يوماً هي أيام ما يعرف بحرب السبعين أو حصار السبعين الذي انتصرت فيه صنعاء بمقاومتها الشعبية المدنية بالدرجة الأولى تحت شعار (الجمهورية أو الموت) وبالإسناد الجوي والشعبي المقاوم والمهاجم من بقية مناطق الجمهورية خلف خطوط الحصار، وبعد أن كان قد غادرها السياسيون ومعظم قادتها العسكريون، وكان النصر للجمهورية والموت لأعدائها، ولذلك فإن هذه الملحمة التاريخية يجب أن لا يحكي أو ينسى التاريخ عدم تسجيلها باعتبارها ملحمة المجتمع المدني بالدرجة الأولى، بعد أن غاب عنها دور الدولة والسياسة والسياسيين وحتى القوة العسكرية المنظمة وقادتها الكبار بالذات إما خوفاً أو عجزاً أو استسلاماً.

-زلزال ذمار كنموذج لتضامن المجتمع المدني عند الكوارث

أما نموذج النجدة والتضامن الاجتماعي للمجتمع المدني في اليمن عند المحن والكوارث الطبيعية فيكفي أن يتذكر الناس كارثة زلزال محافظة ذمار عام 1985م الذي قضى فيه المئات وتشردت آلاف الأسر بعد أن تهدمت مئات وآلاف القرى والمنازل، فهب الناس من بقية المحافظة وغيرها من المحافظات الأخرى المجاورة لاستيعاب وإيواء المتضررين في بيوتهم وبين أهلهم، وفوجئ منظمو مخيمات الإيواء من الداخل والخارج بعدم وجود من يلجأ إليها طوال المحنة وحتى بنيت منازلهم تعاونياً فيما بينهم وبين الدولة والمانحين، وعودتهم إليها من جديد.

-التضامن الشعبي المدني الدائم والخاص

أما على مستوى الدور الخاص والمستمر للعمل التعاوني المدني في الظروف العادية لدورات الحياة البشرية في الولاد والعرس والموت، والدورة الزراعية في الحرث والبذر والزرع والحصاد، ودورة الأعياد والمناسبات وما تحفل به من السلوك والفعل المدني التعاوني والإنساني الواسع، فقد كان ولم يزل هو قاعدة الحياة اليومية والموسمية في حياة الناس القروية والحضرية على السواء، فيما يعرف بالتعاون الشعبي بكل تفاصيله وتشعباته الممتدة بامتداد تفاصيل وتشعبات حياة الناس كل الناس في الريف والمدن، والذي لا يتسع المجال للخوض في تفاصيله التي قد تبدأ ولا تنتهي، والتي قد كتبت فيها وفيما قبلها من أشكال العمل التعاوني المدني عشرات ومئات الرسائل والأبحاث العلمية والمقالات الاجتماعية التي يمكن الرجوع إليها لمن يرغب في التفاصيل في هذا الصدد.

-العمل المدني هوية وجود وليس مجرد ثقافة مكتسبة من الغير

والأهم في ختام هذا الحديث في هذا الصدد هو أن ندرك أن المجتمع المدني ومنظماته ليست ثقافة غربية أو شرقية أو سلعة مستوردة من الآخرين كما يظن البعض! بقدر ما هي (هوية اجتماعية ووطنية) في كل مجتمع عبر تاريخ البشر جميعاً، وهي الأصل الذي تنبثق عنه كل أشكال البناء الفوقية للمجتمع من القوانين والتشريعات والنظم وحتى الدولة نفسها، وهي التي تبقى حينما تتعرض هذه البُنى السياسية والقانونية للضعف أو الانهيار، لأنها هي الضرورة الأولى لوجود الإنسان والمجتمع من أجل حماية نفسه وتلبية حاجاته المشتركة، شأنه في ذلك شأن بقية الكائنات الحية الأخرى، ومن المعيب أن لا تعطى هذه المنظمات دورها وهويتها، وأن تستمر في مجتمعنا كمجرد كلمة حق يراد بها باطل.

وما يميز اليمن في هذا الصدد هو أن فاعلية التعاون والتكاتف الاجتماعي (كأهم مظهر من مظاهر العمل المدني) هو درجة فعالية هذا التعاون في اليمن أكثر من غيره، استناداً إلى طبيعة ظروفه المعيشية والبيئية الصعبة، التي لا يتم التغلب عليها إلا بالتعاون والعمل الجمعي والمدني المشترك، والذي تميزت به أبرز خواص ومظاهر الحضارة اليمنية المزدهرة في الماضي، وهو الضمان الأول لازدهار الحاضر والمستقبل، إذا ما أدركت السياسة والسياسيون هذه الحقيقة والخصوصية اليمنية وكانوا عوناً ورعاة لها كما فعل المرحوم الشهيد إبراهيم الحمدي بدلاً من تحولهم إلى عائق وحجر عثرة في طريقها كما فعل من بعده، والذين أبدعوا في مأسسة الفساد وهدم التعاون والعمل المدني بدلاً من رعايته ودعمه، أو حتى تركه وشأنه على الأقل.

وذلك هو ما ينبغي العمل عليه (بعد مرحلة الحرب) ويرد الاعتبار لتجربة العمل التعاوني المدني والأهلي، وإطلاق عنان دورها في عملية التغيير والتنمية المجتمعية الشاملة والمنشودة.. كاستراتيجية وطنية عامة للتنمية الناجحة مستقبلاً.