فارس النجار

فارس النجار

تابعنى على

القرار 11.. تحرير الدولار الجمركي واستعادة التوازن المالي

منذ 6 ساعات و 38 دقيقة

منذ أسابيع، يتردد في الشارع اليمني وفي مناطق سيطرة الحكومة الشرعية تحديدا حديث لا ينقطع عن نية الحكومة تحرير سعر الدولار الجمركي، سرعان ما تحولت الفكرة إلى مادة خصبة للشائعات، الخبز سيغلو، والأرز سيتضاعف، وحليب الأطفال سيغيب من الرفوف، وفي خضم هذا الضجيج، غابت الحقيقة الأهم وهي أن ما يحدث ليس زيادة على المواطن، بل خطوة في مسار إصلاح اقتصادي طويل تأخر كثيرًا، لكنه بدأ أخيرًا يتخذ شكله المؤسسي الواضح.

فالقرار المنتظر لا يستهدف القوت اليومي ولا السلع الأساسية، بل يصحح معادلة مختلة ظلت تثقل كاهل الدولة وتخدم فئة محدودة من كبار التجار، لسنوات ظل سعر الدولار الجمركي ثابتًا عند مستوى لا يعكس الواقع الاقتصادي ولا سعر السوق، فكانت النتيجة فجوة ضخمة بين ما تُحصّله الدولة وما يربحه التاجر، التاجر يسعّر بضاعته على أساس السعر الحقيقي للدولار، بينما يدفع جماركه بسعر أقل، فيربح مرتين، من السوق ومن الخزينة العامة.لذا فأن المواطن لم يكن في أي يوم مستفيدًا من تلك الفجوة، بل دفع ثمنها في صورة تراجع الخدمات، وانقطاع المرتبات، وتآكل قدرة الدولة على الصمود.

اليوم تغيّر المشهد. لم يعد القرار مجرد نقاش داخل أروقة الحكومة، بل تحوّل إلى سياسة دولة بعد أن أصدر مجلس القيادة الرئاسي قراره رقم (11) لعام 2025، وهو من أهم القرارات الاقتصادية منذ بداية الحرب. هذا القرار لم يأتِ ليزيد الأعباء، بل ليغلق أوسع ثغرات الفوضى المالية التي استنزفت موارد الدولة، وليعيد الانضباط إلى علاقة الحكومة بالمحافظات والبنك المركزي.

القرار ببساطة يرسم خريطة طريق جديدة، كل الإيرادات العامة الجمركية والضريبية والنفطية تُورّد إلى البنك المركزي بعدن. جميع الحسابات خارج النظام المالي تُغلق، المحافظون ممنوعون من التدخل في المنافذ أو منح إعفاءات أو فرض جبايات محلية. والرسوم غير القانونية تُلغى بالكامل. هذه الخطوات ليست إجراءات شكلية؛ إنها تحول جوهري في طريقة إدارة المال العام، خطوة تُعيد للدولة سيادتها المالية وللاقتصاد توازنه.

ولعل الأهم من ذلك أن إلغاء الجبايات غير القانونية سيُخفف كثيرًا عن التاجر والمواطن، الذي كان لسنوات يدفع أثمانًا باهظة عند كل منفذ وكل نقطة، في صورة رسوم محلية غير رسمية، تضاف إلى كلفة النقل والتأمين والتخليص. هذه الجبايات لم تكن تدخل خزينة الدولة، لكنها كانت تُحمَّل في النهاية على المستهلك. اليوم، ومع إلغاء تلك الممارسات، سيجد التاجر نفسه أمام نظام مالي أوضح وأقل كلفة، مما ينعكس مباشرة على الأسعار ويُقلّل من أي أثر مؤقت لتعديل الدولار الجمركي.

وتشير التقديرات الميدانية إلى أن الجبايات غير القانونية كانت تمثل ما بين 20 إلى 30% من إجمالي تكاليف النقل التي يتحملها التجار بين المنافذ الجمركية والأسواق المحلية، وهي نسب مرتفعة كفيلة بأن ترفع أسعار السلع النهائية بنسبة تتراوح بين 5 إلى 10% وفقًا لبعد المسافة وطبيعة البضائع. ومع إلغاء هذه الجبايات بموجب القرار رقم (11) لعام 2025، ستنخفض كلفة النقل بشكل مباشر، مما سيُخفف عن التاجر والمستهلك على حدٍّ سواء، ويُبطل عمليًا جزءًا كبيرًا من أي زيادة ناتجة عن تحريك الدولار الجمركي.

ومن الناحية القانونية، فإن القرارات الحكومية المتعاقبة منذ عام 2021 بما في ذلك قرار المجلس الاقتصادي الأعلى رقم (1) لعام 2023 وقرار مجلس الوزراء رقم (3) للعام ذاته قد نصّت صراحة على تحريك سعر الصرف الجمركي تدريجيًا مع استثناء القوت الأساسي من أي زيادة، وبموجب هذه القرارات، يظل القمح والدقيق والأدوية معفاة من الرسوم الجمركية والضريبة، فيما يستمر تثبيت سعر الأرز والزيوت وحليب الأطفال عند 250 ريالًا للدولار، كما ان معظم السلع نسبة الرسوم الجمركية فيها 5% والبعض الاخر 10%.

هذا الاستثناء الواضح يقطع الشك باليقين بأن الإصلاح الجمركي الحالي لا يستهدف قوت المواطن اليومي، بل يقتصر على السلع غير الأساسية التي يمكن للاقتصاد امتصاص أثر تعديل رسومها دون انعكاسات مؤثرة على حياة الناس.

فيمكن قياس أثر التحرير عليها رقميًا على النحو الآتي:

1- البنزين: السعر الحالي بعد التحسن يبلغ 23,800 ريال للصفيحة (20 لتر)، والزيادة المتوقعة لا تتجاوز 1,600 ريال فقط (5%).

2- الديزل: السعر الحالي 24,000 ريال للصفيحة، والزيادة المحتملة نحو 1,200 ريال فقط (3.9%).

3- معدل الزيادة في سعر الطن للحديد (6.42%) من سعر البيع في السوق المحلي.

هذه النسب تبقى محدودة التأثير، بل إن انعكاسها قد يتلاشى كليًا مع تطبيق الإصلاحات المرافقة، خصوصًا إلغاء الجبايات غير القانونية التي كان التجار يضيفونها على السعر النهائي للسلعة، ما كان يضاعف الكلفة دون مبرر اقتصادي.

كما أن أي تحسن إضافي في سعر الصرف بمعدل 4 إلى 6% كفيل بإبطال أثر هذه الزيادات نهائيًا، لاسيما في ظل الواقع الراهن الذي شهدت فيه العملة الوطنية تحسنًا تجاوز 44% خلال الفترة الماضية، واستقرارًا عند حدود 425 ريالًا للريال السعودي و1,612 ريالًا للدولار الأمريكي.

وهذا التحسن لم يأتِ صدفة، بل كان نتيجة مباشرة للإصلاحات النقدية التي قادها البنك المركزي ولجنة تنظيم وتمويل الواردات، إلى جانب الدعم المالي واللوجستي المقدم من الأشقاء في المملكة العربية السعودية، والدعم الدولي المتزايد لمسار الإصلاحات الاقتصادية الجارية.

وبذلك، يمكن القول إن التأثير العملي لتحرير الدولار الجمركي أصبح عمليًا غير محسوس، إذ تُقابل أي زيادة محدودة في الأسعار بمكاسب موازية في استقرار العملة وتراجع كلفة النقل، ما يجعل هذه الخطوة الإصلاحية أداة توازن لا عبئًا إضافيًا على المواطن.

بمعنى أدق، ما يحدث ليس مجرد تعديل لسعر جمركي، بل إعادة بناء لنظام مالي واقتصادي بأكمله.

فالمنظومتان الجمركية والضريبية اللتان ظلتا تعملان لسنوات دون بنية مؤسسية متكاملة، بدأتا اليوم تستعيدان حضورهما من خلال خطة تحديث شاملة ستشمل تحديث أنظمة أسيكودا وورك، وتزويد المنافذ الجمركية بأجهزة فحص ورقابة حديثة، وإنشاء غرفة عمليات موحدة لتسهيل المعاملات وتسريع التخليص، بما يضمن الشفافية ويقلل من فرص الفساد والتأخير.

وفي قلب هذه العملية تقف لجنة تنظيم وتمويل الواردات بدور محوري، إذ تُشرف على حركة النقد الأجنبي المقدم للموردين لتغطية فواتيرهم، وهو ما يمكّنها من مساعدة مصلحة الجمارك في تحصيل الرسوم بكفاءة عالية، ويُغلق في الوقت ذاته منافذ التهرب الجمركي والضريبي. هذه اللجنة تُعد اليوم الأداة الأهم لضبط السوق وتوجيه الموارد النقدية بما يخدم استقرار الأسعار.

وإلى جانب الإصلاح الإداري، تشير البيانات الرسمية إلى أن الإيرادات الجمركية والضريبية بلغت في عام 2024 نحو 542 مليار ريال، ومن المتوقع أن تتجاوز 1.2 تريليون ريال سنويًا بعد تطبيق الإصلاحات وتحرير الدولار الجمركي، مما يعزز قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الحتمية وعلى رأسها الأجور والمرتبات.

ولعل ما يضفي على هذه الخطوات زخمًا أكبر هو الدعم السعودي المالي واللوجستي الذي أعلن عنه مؤخر، حيث سيسهم في تثبيت سعر الصرف وامتصاص الصدمات الاقتصادية على المدى القصير، غير أن استمرار هذا الدعم مرتبط بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والمالية على أرض الواقع، فالداعمون الإقليميون والدوليون ينظرون إلى نجاح الإصلاحات كضمانة لاستدامة الدعم واستقرار الاقتصاد، لا كشرط مؤقت.

ألا أنه من المهم أن ترافق هذه الإصلاحات خطوات عملية أخرى تحمي المواطن وتضمن عدالة السوق، منها:

1- تحديد هوامش الربح للسلع الأساسية وربطها بفواتير الاستيراد والفواتير الضريبية، استنادًا إلى القانون رقم (5) لسنة 2007 بشأن تنظيم التجارة الداخلية، لمنع استغلال بعض التجار لقرارات الإصلاح لتحقيق زيادات غير مبررة.

2- وضع خطة تنفيذية مزمنة وآلية متابعة دقيقة لضمان نجاح القرار رقم (11)، حيث ينبغي أن تُترجم بنود القرار إلى خطة تنفيذية واضحة بمراحل زمنية محددة، تتضمن مؤشرات قياس أداء يمكن تتبعها دوريًا، فهذه الآلية تمكّن الحكومة من تقييم التقدم، ومساءلة الجهات المنفذة، كما تتيح للمجتمع الدولي مراقبة النتائج وتوجيه دعمه على أساس من الشفافية والإنجاز الفعلي، بما يعزز الثقة باستمرار مسار الإصلاحات

3- دراسة تحسين هيكل الأجور ومعالجة الاختلالات الهيكلية ليشعر المواطن بأن الإصلاحات ليست عبئًا عليه، بل استثمارًا فيه.

إن تحرير الدولار الجمركي، حين يُفهم في سياقه الكامل، ليس قرارًا ماليًا فحسب، بل تحوّل مؤسسي يعيد للدولة قدرتها على إدارة مواردها بكفاءة، إنه إعلان غير معلن عن بدء مرحلة جديدة من الانضباط المالي والسياسي، مرحلة تُعيد الثقة بأن الدولة قادرة على الصمود والإصلاح في آنٍ واحد.

الإصلاحات ليست خصمًا من حياة الناس، بل رهانٌ على مستقبلهم. فحين تُغلق أبواب الهدر، ويُستعاد الانضباط المالي، وتُدار الموارد بشفافية، تصبح الدولة قادرة على تغطية المرتبات وتحسين الخدمات دون اللجوء إلى طباعة نقد جديد أو انتظار المنح.

إنها معركة البقاء الاقتصادي التي لا خيار فيها إلا المضي في طريق الإصلاح حتى النهاية.

فإما أن نمضي في مسار التوحيد والحوكمة وبناء النظام المالي الحقيقي، أو نظل أسرى العجز والارتجال.

والفرق بين الخيارين هو ببساطة...بقاء الدولة أو انهيارها.

مستشار إقتصادي في مكتب رئاسة الجمهورية

من صفحة الكاتب على الفيسبوك