فساد وفوضى وعرقلة التحرر.. تعز في قبضة دائرة شر "الإخوان"
السياسية - منذ ساعتان و 13 دقيقة
لا تزال تعيش محافظة تعز على وقع صدمة اغتيال إفتهان المشهري، مديرة صندوق النظافة والتحسين، غير أن هذه الجريمة المروعة لم تكن سوى قمة جبل الجليد في مشهد أوسع من الفوضى المنظّمة التي تحكم المدينة منذ سنوات.
ما جرى يعكس، وفق مراقبين، "دائرة شر" متكاملة تقودها قيادات عسكرية وسياسية مرتبطة بحزب الإصلاح (الجناح المحلي لتنظيم الإخوان المسلمين)، حيث تحولت المناطق المحررة من سيطرة ميليشيا الحوثي الإرهابية في المحافظة إلى ساحة نهب وفوضى وصراع داخلي، على يدي تلك القيادات في تواطؤ يخدم مشروع الميليشيات في البقاء وفرض الحصار الخناق على السكان.
بنية الفوضى وغياب الدولة
مثّلت جريمة اغتيال إفتهان المشهري، التي عُرفت بجهودها الدؤوبة في تطوير خدمات النظافة وإطلاق مشروع استراتيجي لتدوير النفايات، لحظة فارقة كشفت حجم الانهيار الأمني والإداري في تعز. فالمشهري التي حملت على عاتقها تحسين صورة المدينة، وجدت نفسها ضحية خذلان واضح من الأجهزة الأمنية والعسكرية الخاضعة لنفوذ قيادات محسوبة على حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين).
تسجيلات واعترافات القاتل الرئيسي قبل مقتله، وما أعقبها من اعتقالات طالت قيادات عسكرية يشتبه بتورطها أو تواطئها، أزاحت الستار عن شبكات نفوذ متغلغلة تحمي عناصر خارجة عن القانون وتتعامل معها كأدوات للابتزاز والاغتيال. ويرى محللون أن هذه التطورات تفضح طبيعة التحالفات الخفية التي يستخدمها حزب الإصلاح لإدامة حالة "اللا دولة"، حيث تتحول بعض الأجهزة العسكرية والأمنية إلى مظلة تحمي عصابات الجريمة المنظمة وتمنحها غطاءً سياسيًا وأمنيًا.
ولم يقتصر الأمر على انكشاف خيوط الجريمة، بل استدعى تدخلاً رئاسيًا عاجلًا. ففي اتصال هاتفي مع محافظ تعز نبيل شمسان يوم الأربعاء، وجّه رئيس مجلس القيادة الرئاسي الدكتور رشاد محمد العليمي بضرورة استمرار الحملة الأمنية حتى استكمال تطهير كل المناطق المشتبهة بإيواء العناصر الإجرامية والخلايا الإرهابية المتخادمة مع المليشيات الحوثية، مع اتخاذ الإجراءات التي تضمن عدم تكرار مثل هذه الجرائم. كما شدّد العليمي على محاسبة كل من يثبت تورطه في التستر أو التسهيل لتلك العصابات الخارجة عن النظام والقانون، وتكريم القيادات الأمنية التي قادت العمليات بكل شجاعة ومسؤولية.
هذا الموقف الرئاسي، بحسب مراقبين، يرسّخ قناعة بأن تعز تعيش معركة داخلية موازية لمعركتها مع الحوثيين: معركة تفكيك منظومة الفساد والفوضى التي تغذّيها قيادات عسكرية وحزبية نافذة، وتحوّل المؤسسات الأمنية من أدوات لحماية المواطن إلى دروع حماية لشبكات الإجرام.
فساد ممنهج وأزمات متلاحقة
لا يقتصر نفوذ حزب الإصلاح في تعز على الملف الأمني والفوضى المسلحة، بل يمتد إلى ما هو أخطر: شبكة فساد مالي وإداري متجذرة تحوّل الموارد العامة إلى غنائم خاصة وتبقي المدينة رهينة أزمات معيشية خانقة.
تقارير محلية ووثائق مسربة تكشف عن نهب منظم للإيرادات تحت مسميات متعددة، آخرها فرض ضريبة القات واستقطاع نسب من عائدات المشتقات النفطية، وهي أموال ضخمة تذهب منذ سنوات إلى خزائن قيادات محور تعز العسكري الخاضع للإصلاح. ويتم تبرير هذه الاستقطاعات عبر شعارات مكررة مثل "استكمال تحرير تعز من الحوثيين" أو "الدفاع عن المدينة"، بينما لا يلمس المواطنون أي أثر لهذه الأموال في تحسين حياتهم اليومية.
هذا النهب الممنهج يترافق مع تقاسم المناصب والامتيازات بين القيادات الحزبية والعسكرية الموالية للإصلاح، حيث يتم تعيين الموالين في مفاصل حساسة من الإدارة المحلية والمكاتب الإيرادية، ناهيك عن تسليم قيادات حزبية مناصب عسكرية داخل ألوية المحاور ما يجعل الرقابة الحقيقية على الموارد شبه مستحيلة. وفي المقابل، تغيب خطط تنموية جادة لتحسين الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وطرقات، فتظل الأحياء المدمّرة كما هي، محرومة من أبسط مقومات الحياة.
ويرى ناشطون وسياسيون أن هذه السياسات حرمت أبناء تعز من ثمار التحرير الذي دفعوا ثمنه دمًا وتضحيات، وأبقت المدينة في حالة حصار معيشي داخلي لا يقل قسوة عن حصار الحوثيين. ويذهب بعضهم إلى القول إن ما يجري هو "حرب اقتصادية مقصودة"، هدفها إبقاء السكان في حالة تبعية واستنزاف دائم.
ولعل أزمة المياه الأخيرة تجسد هذه الحقيقة بوضوح. فقد واجه سكان تعز العطش لأشهر طويلة، فيما ظلت قيادات الإصلاح تعرقل – بدوافع سياسية محضة – مشروع مياه الشيخ زايد الاستراتيجي المموّل إماراتيًا والمنفذ من قبل المقاومة الوطنية، والذي كان من شأنه تزويد المدينة بكميات كافية من المياه النظيفة.
وعلى الرغم من خطورة الوضع الصحي، وارتفاع معدلات الأمراض المرتبطة بتلوث المياه، استمرت هذه القيادات في تعطيل المشروع في إطار حسابات نكاية سياسية مع الجهة الممولة، متجاهلة معاناة عشرات الآلاف من المواطنين الذين اضطروا إلى استهلاك مياه ملوثة زادت من انتشار الكوليرا والأوبئة.
هذه الوقائع، بحسب مراقبين، تكشف أن الفساد ليس مجرد انحراف فردي بل منهجية راسخة تتقاطع مع أهداف سياسية، بحيث تتحول معاناة السكان إلى أداة ابتزاز وورقة ضغط تعزز نفوذ القيادات الحزبية، وتمنع تعز من النهوض رغم مرور سنوات على تحريرها من قبضة الحوثيين.
ملعب للجريمة
الأخطر من الفوضى الأمنية في تعز، بحسب مصادر أمنية ومحلية، هو انتشار عصابات وخلايا إرهابية وإجرامية باتت تعمل علناً تحت غطاءٍ أو حمايةٍ من شبكات نافذة داخل المؤسسة العسكرية والأمنية. حالات الاغتيال المتكررة، وجرائم الاختطاف، وعمليات الابتزاز في الأحياء السكنية والأسواق، إلى جانب تنظيمات تروّع المواطنين وتفرض قواعدها بالقوة، لم تعد حوادث معزولة، بل نمط سلوكي متكرر يشي بوجود محميات أمنية وسياسية توفر لهذه العصابات ملاذاً وغطاءً للحركة والتموضع.
تتواتر الشكاوى من أن هذه المجموعات تعمل في مناطق تخضع لسيطرة قوات محسوبة على حزب الإصلاح، حيث تتحول الكتائب وأحياناً أقسام من الأجهزة الأمنية إلى قنوات لتوفير الحماية والتسهيل اللوجستي لعناصر خارجين عن القانون، ما يحول التعقيد الأمني إلى آفة اجتماعية تقوّض مساعي إعادة البناء والاستقرار. النتيجة: فقدان واسع لثقة السكان في قدرة السلطات على فرض النظام، واحتجاز للمدينة بين عنفين متقابلين—حصار الحوثي من الخارج، وفوضى مسلحة ونهب وابتزاز من داخل مناطق التحرير.
والسياسي عبدالله فرحان وجّه اتهاماً مباشراً لقيادة محور تعز، معبِّراً عن مرارة المجتمع المدني من حالة الإفلات من العقاب والاحتضان السياسي للبلطجية، وقال مخاطباً القيادات: "كنتم تعلمون وكنتم تهاجمون الناقدين بالشتائم والاتهامات، بينما ذلك الذي يعبث بتعز يستخدم سلاح الدولة ويصير قائد كتيبة. من يشوّه الجيش؟ هل الناقد الذي يطالب بتنقيته أم قادة الكتائب الذين يحولون السلاح إلى غطاء للبلطجة؟"
وأضاف فرحان بصوتٍ حادٍّ أنه يشعر "بغصة" وهو يرى قادةً عسكريين يتهاوون أمام فيديوهات صعلوك بقدر ما تساءل عن مصير المساءلة القضائية لقادة الكتائب الذين رُوهِنَت لهم قضايا قتل ونهب. واستطرد قائلاً إن الإعلام الذي يبرر هذا الوضع "هو العدو الحقيقي" لأنه يبرّر الاحتضان بدل أن يضغط للمحاسبة والإصلاح.
تصاعد ظاهرة الحماية السياسية للجماعات المسلحة يضع السؤال الأكبر: من يملك القوة الحقيقية في تعز؟ وهل تبقى مؤسسات الدولة مجرد ديكور بينما الواقع تُسيطر عليه خلايا متخصصة في القتل والابتزاز مدعومة بغطاء رسمي؟ محللون محليون يؤكدون أن استمرار هذا الوضع يخدم مصالح أطراف عدة، وأولها القوى التي تستفيد من تشتيت الجهود المحلية عن مواجهة العدو الأصيل—ميليشيا الحوثي—لأن المدينة مشغولة بصراعات داخلية تضعف مواجهة التهديد الخارجي.
خدمة المشروع الحوثي
يذهب محللون إلى أن حالة الفوضى المزمنة التي تعيشها تعز ليست مجرد خلل أمني داخلي، بل خدمة غير مباشرة لمشروع الحوثيين الذين يفرضون حصارًا خانقًا على المدينة منذ سنوات. فإضعاف مؤسسات الدولة في المناطق المحررة، وإشغال القوات الحكومية بصراعات داخلية مع عصابات مسلحة وكتائب منفلتة، يخفف الضغط العسكري على الحوثيين ويمنحهم فسحة لإعادة تنظيم صفوفهم ومواصلة الحرب بلا كلفة تُذكر.
ويؤكد مراقبون أن "تقاطع المصالح" بين فساد قيادات حزب الإصلاح ومخططات الحوثيين يفسّر تعثر استكمال تحرير المحافظة رغم مرور أعوام على انطلاق المعارك. فبينما يُفترض أن تُوجَّه كل الجهود نحو فك الحصار واستعادة بقية المناطق، تتحول تعز إلى ساحة استنزاف داخلي تُهدر فيها الأموال والأسلحة في صراعات نفوذ بين الفصائل نفسها.
هذا الواقع لم يكن مفاجئًا لكثير من القيادات السابقة. فقد كشف محافظ تعز الأسبق أمين أحمد محمود عن وجود ما سمّاه "دائرة شر أكبر مما تتصورون"، موضحًا أنه طلب من الرئيس السابق عبدربه منصور هادي أثناء فترة توليه منصب محافظ تعز إقالة قائد المحور ومدير الأمن كخطوة أولى لإقصاء العناصر المشبوهة والمندسة وغير المؤهلة.
وقال محمود في تحذيراته التي أعاد التأكيد عليها مؤخرًا: "طالبتُ بتفعيل قانون القوات المسلحة والأمن، وإعادة بناء ألوية جيش وأمن حقيقية تقوم بمهامها في تحرير البلاد من ميليشيات الإرهاب الحوثية واستعادة الدولة والجمهورية. ولا أزال أطالب فخامة الرئيس الدكتور رشاد العليمي بأن يقوم بواجبه الدستوري".
وتتقاطع هذه التحذيرات مع ما كشفته أروى الشميري، التي أوضحت أن أكثر من 80% من المحكوم عليهم في قضايا جسيمة ومن عليهم أوامر قهرية هم منتسبون لمحور تعز، ومع ذلك تم تعيينهم قادة كتائب عسكرية. وقالت الشميري بمرارة: "هؤلاء يسمون أنفسهم جيشًا وهم في الحقيقة ميليشيات. عندما وصفتهم بذلك اتهموني بالتحوث وقدموا ضدي شكوى، والآن الله فضحهم على حقيقتهم".
بحسب مراقبين ونشطاء، فإن المعالجة لا يمكن أن تقتصر على حملات أمنية محدودة أو مداهمات ظرفية، بل تتطلب إصلاحًا جذريًا للمؤسسة العسكرية والأمنية:محاسبة القادة المتورطين في حماية العصابات والخلايا الإرهابية، وفكّ الاحتضان السياسي عن القيادات التي تستخدم سلاح الدولة لابتزاز المواطنين، وتطبيق آليات شفافية صارمة على موارد المحافظة لمنع تمويل هذه الشبكات، وإطلاق رقابة مدنية مستقلة تعيد ثقة المواطنين بأجهزة الدولة.
ورغم صدور توجيهات رئاسية صريحة من الرئيس رشاد العليمي باستمرار الحملة الأمنية لتطهير الجيوب المشتبه بإيوائها عناصر إجرامية أو خلايا متخادمة مع الحوثيين، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في التستر أو التسهيل، يبقى السؤال الذي يردده الشارع التعزي: هل ستتحول هذه التوجيهات إلى إجراءات فعلية تقطع شبكة الحماية التي ترعى الفوضى وتخدم الحوثي، أم ستظل حبراً على ورق يُستغل لإطالة أمد صراعٍ يصبّ في نهاية المطاف في مصلحة الميليشيات؟
المطالبة بالخلاص
مع فجر الاحتقان الشعبي عقب جريمة اغتيال إفتهان المشهري، تصاعدت في تعز أصوات تطالب بتحرك حكومي عاجل يعيد ضبط الأوضاع ومحاسبة كل من ثبت تورطه في الفوضى والفساد. يرى كثير من السكان أن دماء المشهري يجب أن تشكل «نقطة تحول»؛ لحظة حاسمة ينتقل فيها الحديث من الشجب إلى إجراءات عملية تقطع دابر الإفلات من العقاب وتعيد مؤسسات الدولة للعمل الطبيعي. إذ لم تعد مطالب الأهالي تقتصر على القبض على الجناة فحسب، بل تمتد إلى محاسبة القيادات العسكرية والحزبية التي أضحت، بحسبهم، جزءًا من المشكلة لا الحل.
الناشطون ومنظمات المجتمع المدني يحمّلون الرئاسي والحكومة مسؤولية استعادة سيادة القانون في المدينة، مؤكدين أن استمرار التهاون يعني تكريس مناخ العنف والابتزاز الذي ينعكس يوميًا على معيشة الناس وسلامتهم. وقد ختمت جرائم الاغتيال المتتالية وعمليات النهب والإرهاب المحلي صبر شريحة واسعة من المواطنين الذين اعتبروا أن الغياب الفعلي للدولة في شوارع المدينة هو ما مهد لتمدد العصابات والخلايا المدعومة سياسياً ولوجستياً.
وفي هذا الإطار، عبّر الناشط عبدالله جاحب عن شعوره بأن التعز تواجه اليوم «فرصة سانحة وذهبية» للتخلي عن مرحلة الانبطاح والسكوت، والدخول في مرحلة تصحيح المسار. قال جاحب مخاطبًا أبناء المدينة: «اليوم أمام أبناء تعز فرصة سانحة وذهبية بعد سقوط القناع عن ما يدور ويحدث في محافظتهم من ممارسات وأفعال بعيدة عن النظام والقانون… موجه الغضب وتصحيح المسار والمضي قدمًا نحو الخلاص من آفة ‘الإصلاح’ في تعز».
وحذّر جاحب من إعادة السماح للإصلاح بالهيمنة مجدداً، معتبرًا أن أي تساهل سيجعل تعز «تلتذع بنيران أكذوبة السلام أو تلدغ في جحرها من الإصلاح مجدداً». وأضاف أن حزب الإصلاح نجح «بدهاء وحرفية عالية» في إبعاد تعز عن دائرة الضوء الإعلامي، وتحويلها إلى «موطئ قدم» تمرّر من خلاله مخططات خاصة بعيدا عن الرقابة العامة، مستغلاً قدراته السياسية والإعلامية لتشتيت الانتباه إلى قضايا جانبية.
ولا تقتصر المطالب الشعبية على الانتقاد الإعلامي أو الخطاب العاطفي؛ بل تطالب بخارطة طريق عملية تتضمن: تحقيقات قضائية عادلة وعلنية في قضايا الاغتيال والاختطاف والنهب، مع ضمان عدم إفلات أي متهم مهما كانت صلته بمراكز النفوذ، وإصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية عبر إعادة تأهيل الوحدات وإخضاع القيادات للمساءلة، وفك ارتباط بعض الكتائب بجهات سياسية ضاغطة، وإجراءات شفافية على الموارد—إيرادات المحافظة والمشاريع—لتفكيك شبكات التمويل التي تغذي الفوضى، وإشراك المجتمع المدني والإعلام الحر في آليات المراقبة وتقديم تقارير دورية للرأي العام.
يرى كثيرون أن استجابة السلطات لصرخة الشارع ستكون مقياسًا حقيقيًا لمدى جدية الدولة في استعادة منظومة الأمن والعدالة وإعادة تعز إلى دورها التاريخي كمدينة مقاومة وبوصلة وطنية لا ملاذًا للمجرمين أو منصة لتمرير أجندات مضرة بمصلحة السكان والوطن.