لم يعد غريبًا أن يظهر عبد الملك الحوثي فجأةً في الشارع الفلسطيني كـ«بطل قومي» يُصفَّق له؛ في زمنٍ صار فيه مجردُ الصراخ بـ«الموت لإسرائيل» كافيًا لنيل وسام البطولة.
يطلق طائرةً مسيّرة باتجاه ميناء إسرائيلي، فتمحى—في عيون الفلسطينيين المحسوبين على التيار الإسلامي—كلُّ جرائمه في اليمن: قتله للمدنيين، تفجيره للمساجد، تفكيكه للدولة، وتبعيته المطلقة لطهران.
بضغطة زرٍّ وصوتٍ مرتفعٍ ضد إسرائيل، تُغفَر الدماء، ويُغسَل السجل.
أصبح المعيار ساذجًا وخطيرًا: إن أزعجتَ إسرائيل، فأنت بطل؛ حتى لو مزّقتَ بلادك، وخنقتَ شعبك.
في غزة، تُرفَع صور الحوثي، وبعضهم لا يعرف أين تقع صعدة أصلًا، ولا كيف انقلب الرجل على دولته، تحت الشعارات نفسها التي يعرضها اليوم أمام الكاميرات.
وليس هذا الانبهار مقتصرًا على الداخل الفلسطيني فقط.. في أحد أسواقِ عاصمةٍ عربيةٍ زرتها قبل أشهر، وبين صخب الباعة وروائح القهوة والتوابل، دخلتُ محلًّا صغيرًا رفرف فوق بابه علم فلسطين، وعلى جداره صورةٌ لعبد الملك الحوثي مطبوعة بدقة.
سألتُ البائع، شابًّا في أوائل العشرينات، بدا واثقًا من نفسه:
– «تعرف مَن هذا؟»
ابتسم بحماسة، وقال: – «أكيد… هذا اللي واقف بوجه إسرائيل!»
سألته بهدوء: – «وهل تعلم أنه، في اليمن، يقصف المدن، ويقتل اليمنيين الذين رفضوا حكمه؟»
نظر إليّ بدهشة، وصوته خفت فجأة: – «لا… ما أعرف. أنا شفت له خُطَب يتكلم عن فلسطين.»
كان المشهد مختصرًا لفوضى المعايير: صورةٌ واحدة، وخطابٌ ناريٌّ، كفيلان بمحو سجلٍّ دموي، وتحويل القاتل إلى مقاوم.
والمشكلة لا تقف عند الناس العاديين؛ حتى بعض المثقفين—الذين يُفترَض أنهم أكثر وعيًا—انزلقوا إلى التهليل لعبد الملك الحوثي، لمجرّد أنه قال ما يُرضيهم عن إسرائيل.
رأينا أسماءً لامعةً، مثل: الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، الذي درّس في جامعة الإيمان بصنعاء؛ والدكتور الأردني حذيفة عبد الله عزام، نجل قائد العرب أيام القتال في أفغانستان؛ وحتى الدكتور الهاشمي الحامدي، صاحب قناة «المستقلة».
تحوّلوا فجأةً إلى مُروّجين لخطابات الحوثي؛ متجاوزين تاريخه، وعنصريته، ومشروعه الطائفي، وتفجيره للدولة اليمنية.
لم يناقشوا جوهر مشروعه السياسي، بل اكتفوا بتأييد «نصرٍ إعلاميٍّ»، أو التغنّي بخطابٍ عاطفيٍّ أُطلِق مع أولِ صاروخ، فخمد معه ما يُفترَض أنه وعيٌ نقدي.
وهكذا، لم يتآكل الوعيُ الشعبي فقط؛ بل تهاوى وعيُ بعضِ النخبة أيضًا، وتساوى في الذهول مَن يبيع في السوق، ومَن يظهر في الفضائيات، ويُدرّس في الجامعات.
من أكثر اللحظات التي أدهشتني: لقاءٌ شاهدتُه قبل أسبوع، لرجل الأعمال والمفكر المعروف طلال أبو غزالة، على قناة «المشهد».
قال فيه، بجديّةٍ تامة: «إيران دولةٌ عظمى، ومن حقها امتلاك السلاح النووي، ولم تؤذِ أيَّ دولةٍ عربية.»
كدتُ أظن أنني أسمع تصريحًا من مسؤولٍ إيراني، لا رجلًا عربيًّا يعرف التاريخ!
عن أيِّ إيران يتحدث؟ تلك التي رعَت ميليشياتٍ مزّقت العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن؟!
كان يبدو كمن يقرأ بيانًا رسميًّا، لا تاريخًا دامغًا؛ لكنه، مثل الشاب البسيط في السوق، رأى في «العداء لإسرائيل» صكَّ براءةٍ يغفر ما عداه.
وما يجعل مثل هذه التصريحات أكثر سخريةً، هو ما كشفته الوقائع.
قبل أيام فقط، كشفت استخبارات وبحرية «المقاومة الوطنية» عن شحنةٍ ضخمةٍ كانت في طريقها إلى الحوثيين: 750 طنًّا من الأسلحة المتطورة، مُهرَّبة عبر البحر، وموثَّقة بالأرقام والمصادر.
لم تكن شحنةً عشوائيةً أو تجارةً سوداء؛ بل دعمًا منظَّمًا، مركزًا، ومصمَّمًا لإطالة الحرب، وتعزيزِ قبضة الحوثي على المدن والناس.
إيران—التي يُسوّقها البعض كـ«نصيرٍ للمقاومة»—كانت، ولا تزال، تُغذِّي أكثر جماعةٍ عنفًا في الجزيرة العربية؛ لا من أجل فلسطين، بل من أجل خنق اليمن.
ولعلّ من الإيجابي الإشادةَ بتراجع ساحات المدن المحررة من الحوثي—كتعز، وربما مأرب—عن الاحتشاد يوم الجمعة باسم فلسطين، ورفع الشال الفلسطيني على الأكتاف.
فقد كانت هذه المظاهر، مبعثَ احتفاءٍ لقناة «المسيرة» الحوثية، إلى جانب مظاهرات صعدة وصنعاء، وتعرضها كأنها «وحدة ساحات» تقاوم العدو المشترك، وتمحو الفوارق، وتغسل دموية الحوثي… بسذاجةٍ لن ينساها الزمن.
يكفي أن تُطلق خطابًا ضد إسرائيل، أو صاروخًا نحوها، لتُصبح—في نظر الجماهير—خليفةً لصلاح الدين؛ ولو كنتَ، في الحقيقة، تزرع الألغام في قلوب أطفال بلدك.
الحوثي، كغيره من «أبطال الورق»، لا يقاتل من أجل القدس؛ بل من أجل النفوذ، وخدمة مشروعٍ إقليميٍّ تقوده طهران.
وهكذا، بين «إيران السلمية جدًّا» و«صلاح الدين الحوثي»، لا يبقى لنا إلا أن نضحك… كي لا نبكي؛ ففي زمنِ الهتاف، يُمنَح شرفُ المقاومة لمن يذبح وطنه، ما دام يصرخ—ولو للحظة—في وجه العدو.
من صفحة الكاتب على منصة إكس