عائشة.. قِصة بلدٍ أنهكته الحَربُ وطوَّقه ظلامُ القتَلةِ من كلِّ الجهات

تقارير - Friday 18 February 2022 الساعة 06:34 am
عدن، نيوزيمن، خاص:

قراءة - في رواية عائشة 

أجل الكاتب بوحه وشوقه لعائشة التي قُتلت في إحدى النقاط الأمنية في قلب صنعاء إلى الفصل الأخير من هذا الكتاب، كي يأخذ مساحة كافية، ويلخص حادثة مقتلها مستعينًا بعيون القتلة، وزناد البنادق في أيدي صغار الأنصار.

كان الشوق أكثر وقعًا من أي عنوان آخر، كأنه يريد أن يلفت ضمير العالم النائم إلى مقتل روحه وحبيبته الأزلية.

لم تكن عائشة سوى سطر أليم في أرصفة ملأتها المليشيا بالجنازات، وشوارع اشبعها القتلة برؤى الخرافة وتفاصيل الموت.

لم تضع الحرب أوزارها بعد يا عائشة، القتلة ما زالوا يمارسون المهنة؛ لا يهمهم الكلفة، لطالما كان القتلُ مصدر رزق لهم، ومبعث فخر عند اسيادهم الافتراضيين ممن يقفون خلف جدران العنصرية. 

هي لعنة أصابت محور الحياة التي كُنْتيها قبل الرحيل، وكانتها نساء المدينة اللاتي فُجعن بك قبل أن تريْ البلاد تستعيد عافيتها، والشوارع تضيئ من جديد بمستقبل وارف بالحياة.

عائشة أَم البلاد المطحونة 

عائشة ليست سوى بلد مطحون، داست على أضلاعه جنازير الظلاميين؛ لتتركه يغرق في فوضى ليس لها افق، وغموض ليس له نافذة.

تبدو الرواية للوهلة الأولى كأننا أمام قصة تحكي حدثا عابرًا في خضم حرب بدأها الحوثي على الجميع دون استثناء. وسينتهي المطاف.

لكن لغزًا كبيرًا يقف وراء حكاية أليمة لما تعانيه مدينة كانت تسكن فيها عائشة.

نحن على مشارف سرد مختلف، يحتوي العالم بكل تناقضاته وحداثته، غير أن صورة عائشة لا تفارق السطور ابتداءً من الإهداء إلى: "عائشة الحيمي.. حبيبة وزوجة وذكرى أبدية".

يتخذ العمل (26) عنوانًا، جميعها مدخل لتفاصيل دقيقة، تبدأ بأحلام طفولة خطفتها الحرب لاحقًا وتاهت في زحام مليشيا حولت البلد لما يشبه المقبرة.

حديقة الاستياء

لم يكن الشمال وحده الحاضر في سطور الكاتب كانت عدن أيضًا متواجدة، عدن التي خرجت من عنق الحوثي بلا خدمات، بلا شيء يذكر عدا ما تبقى من أصوات الانفجارات ونقوش خلفتها فوهات البنادق على جدران البيوت والشوارع.

يبرز هذا العنوان الجانبي ليفرغ الكاتب جزءا من ذاته العالقة في طفولة بريئة لها أحلامها والعابها ونظرتها للعالم وايقاع الحياة اليومية في شوارع صنعاء وازقتها.

يقول الكاتب تحت عنوان الناس للناس، "ها هو فلان في شارع ما، يمسك بيده رجل عجوز طاعن في السن، ليقطع به الطريق، وأنا من كنت أعتقد أنه لم يعد هناك من يمسك يد أحد الآن، فالكل متشبث بالحافة خوف السقوط. لكنهم لا يسقطون".

يتفنن الكاتب بلغة أدبية محضة تصوير كثير من علاقات الناس اليومية ببعضها، تتناول الأطعمة المتواضعة والوجبات التي تتماشى مع الفاقة وإمكانيات الناس التي صارت في الحضيض.

نور أهل صنعاء

حتى اللحظة، عائشة ما تزال غير حاضرة تمامًا إلا في خيال الكاتب وعذابات الوطن، يبدو أنه أجل الحديث عنها حتى يرسم صورة كاملة عن مشهد مليئ بالعتمة ووطن يتوسد أفكار البسطاء.

يقول: "في الحرب.. زادت الظلمة والظلام. وغرق الجميع في العتمة. إلى أن يستدرك بقوله: "تمضي في الشوارع الداكنة لمدينة يغلفها الظلام، لا تجد فيها إلا نوافذ تشع بلون اصفر يوحي بالدفء. الكل يتجمع حول الشمعة.. بحثًا عن ضوء. لتصبح كل ليلة من ليالي صنعاء تعيش حالة عيد ميلاد. كأنهم يحتفلون بعيد ميلاد جديد لوطنهم. كل ليلة".

يخلص الكاتب الحديث عن تفاصيل دقيقة تلفت الأنظار أكثر من أي حدث، كأنه يحكي أحلام مستقبل لا يمكن له أن يموت؛ لمجرد أن حربًا خرساء قذرة، قامت هنا أو هناك.

يصور الكاتب مدينته المستقبلية وفضاءه الخاص في محاولة غير يائسة، يريد أن يعيش حقيقة أخرى ليست واردة ابدًا في أرض الواقع.

"هناك. في أقصى عتمة المدينة. يتشابك النوران، نور على نور. ينيران درب أنبياء هذا الزمان. ممن: اُهينوا. ضُربوا في الشوارع. حاصرتهم نيران الأرض. لهب السماء". 

لا تبدو الحرب أكثر من نزهة عند تجارها، غير أن رحيلا واحدا كرحيل عائشة، يظل غصة تلازم أسرة الضحية وأقرب الناس لها.

تفاصيل التفاصيل

يصور مشهد نهوض الناس بعد قصف ما أو حدث يهز أركان المدينة، الكل يطمئن على بعض حتى وإن استهلك الرصيد ونفد شحن البطارية.

تتصاعد اللغة الأدبية داخل العمل كما يتصاعد الضوء من خلف جبال شاهقة، يصل الكاتب ذروة التصوير لمشاهد فانتازيا مريبة تمتزج بتراجيديا الرحيل.

يقول: "من كان يعتقد أنه سيشتاق إلى كأس ماء بارد في زمن الفريون". ومع ذلك هناك من يصر على توزيع البهجة وتشييع الارتواء.

مع كل مشهد سردي يؤدي دوره خيال الكاتب، ينتهي عند اسم نبيل، كمن يحرص على تدوين اسمه بكل تلك الأحداث والمآسي، ليثبت لاحقًا أنه أقوى من ما خلفته الحرب.

يحاول نبيل جاهدًا رسم صورة جميلة عن مدينة صنعاء واناسها، متجنبًا الدخول في معارك مباشرة وصراعات، يريد نفي التهمة عن هذا الوطن الذي ابتلعته جماعات الفوضى، ويريد أن يقول، لا ظلام يسكن هنا، لا وحشة، كل شيء في منتهى الجمال.

السقوط في الحفرة

يستدعي الكاتب أسماء العصور في لحظات تعج بالعتمة رغم أننا في "عصر الطاقة"، هكذا تبدو المدينة منجما كبيرا من التاريخ تعبث بها الأحداث وتلهو بها الأيام.

يتجنب السقوط في الحفرة، يحاول الاستمرار للوصول إلى روح عائشة؛ متجاوزا عصر "السيد الجليدي"، عصر التكبر والتعجرف، عصر انهيار القيم، حتى العصر الطباشيري.

يقول: "في الحرب تحتضن النساء أزواجهن. عند اشتداد القصف وعتمة الظلام". يصور منظرهن في مواجهة الصواريخ والمدافع، حتى ضحكاتهن تغلب هدير اختراق الصوت.

تتكوم الذاكرة وتحتشد الأصوات، يهرع نبيل إلى مكان ما، ثمة إسعاف في الجوار أطفال يتساقطون وآخرون يبحثون عن بقعة للنجاة.

النزوح، الطوابير الطويلة للحصول على ماء نقي صالح للشرب، انتظار الكهرباء، الغاز، البحث عن الخبز، الهروب من رصاص الراجع، انتظار الموت على قارعة الطريق، أشياء تم رصدها في حكاية عائشة.

معاناة لا تنقطع 

في ظل غياب الغاز وانقطاع تيار الكهرباء، تندثر البدائل، لتتجسد المعاناة في أبهى الصور، وتتلاشى الخيارات أمام نبيل وزوجته عائشة، تنسحب البلاد من تصدر المشهد، لا شيء يمكن التباهي به في ظل كل هذا العدم.

على لسان عائشة يسرد الكاتب مراسم زواجها كيف تمت على عجالة، فالسماء مزدحمة بأرواح الضحايا، الحوثيون على الأبواب، حادثة العرضي وقتل الأطباء لم تفارق الذاكرة بعد. الكل يبحث عن أمان وعما يبقيه على قيد الحياة.

يتقمص نبيل دور السارد فيحكي عن عائشة كما لو أنها لم تمت، فهي ما تزال تقف عند النافذة تتابع عراكا بين ثلاث عجائز من جهة وآخر بينهن وبين المجنون.

استمرت عائشة في التلاشي حتى طفلها لم يكبر هو الآخر، فضل الانطواء والجلوس إلى شاشة البرامج الهائلة والعابه المفضلة.

لكنها كانت تحضر في الوقت والمكان المحدَّدين، مخيمات النازحين، مع الأطفال؛ تتفقد أحوالهم، تقص عليهم احسن القصص، وفي سرها تلعن الحرب وتجارها.

الشوق لعائشة

يستغرق الكاتب ملكاته خلف هذا العنوان، ليسكب تفاصيل مريرة وهو يستذكر جزءا مهما من حياته مع عائشة. 

الفتى المسحور يتجسد في شخصية المنقذ صانع السلام يتدرج في الوصول إلى أعلى قمة، وهناك يعمل على بث السعادة لهذا العالم.

قالت عائشة: "كلكم فتيان مسحورون.. اتيتم من أماكن يملأها العجب.. تغلفها الأساطير. كلكم ستصنعون السلام. لا تسمعوا لقتلة الخارج. لا تهتموا لسفاحي الداخل. اهتموا بأرواحكم".

يعيش الكاتب مع محبوبته، يستدعي روحها من البعيد، لا يريد الاعتراف بأنها رحلت في زحام الحرب، فهي لا تزال إلى جانبه تصوم معه، تصلي وتردد اغاني قدوم رمضان، تتسوق معه، ترافقه وهو يقرأ الكتب والروايات وسور القرآن.

لحظات سقوط عائشة

"هناك على أعتاب "شارع العدل".في بلد لا يعرف معنى العدل. على طريق "تقاطع الجامعة" في بلد لا يحترم التعليم.. كان هناك "اطفال لأنصار الله" يا عائشة.. دائما ما يوظف "أنصار الله" الأطفال في جيوشهم.. كان هذا يغضبك كثيرًا.. يفتشون السيارات.. الأشخاص.. النوايا.. يبحثون في الأعين وفي الضمائر..

تصاعدت في الأفق أصوات طلقات كثيرة قريبة منك. وأنتِ من تخافين صوت الرصاص. لا تخافي.. أنا بقربك".

"يتدفق الدم من ظهرك وصدرك الحنون وعلى كتفيك الكريمتين.. تطاير دمك في وجهي يا عائشة.. وتسربت حياتك من بين أصابعي".

يعاتب الكاتب محبوبته على رحيلها التي خطفت روحها رصاصة طائشة لأحد اطفال أنصار الله.

كانت الحادثة وقت الإفطار.. لم تُجد تلك المسافات التي قطعت بلمح البصر ولا الاسعافات رغم الاستنفار الكامل.. الكل يريد عائشة. حتى الله كان يريدها إلى جواره.

وأخيرا صاح طفل من الأنصار بقوله: "يموت المئات من الرجال في الحدود يوميًا وانتم عاملين مشكلة على شان حرمة".

هذه نهاية طبيعية في بلد تحكمه مليشيا عمَدت إلى استدعاء الحرب وهي أبعد ما تكون عن عيون عائشة..

يكفي هذا التخليد وهذا التوثيق بروح أدبية خالصة لكي نعرف حجم المآسي التي حلت بنا وحجم البؤس الذي وفَدَ علينا في لحظات كنا نعتقد أنها مسكونة بالأمان.

عظم الله أجرك يا نبيل في رحيل عائشة.